الصفحات

صيدا عبر العصور

( أ ) الفتح العربي وتحصين صيدا بالقلاع:

تُعتبر مدينة صيدا في مقدمة مدن الساحل الشامي التي افتتحها يزيد ابن أبي سفيان بعد أن استخلفه أبو عُبيدة بن الجرّاح على دمشق. وكانت صيدا من أعمال دمشق ولذلك عهد إليه أبو عبيدة بفتحها مع غيرها من المدن الساحلية التي تتبع إقليم دمشق مثل عرقة وجبيل وبيروت ثم طرابلس التي افتُتِحت فيما بعد في خلافة عثمان بن عفان (لعبد العزيز سالم، طرابلس الشام في التاريخ الإسلامي، الإسكندرية 1967 ص35،36 ). أما سواحل الأردن فقد تعاون في فتحها كل من يزيد بن أبي سفيان وعمرو بن العاص، واشترك معهما معاوية، وأبلى في ذلك بلاءً حسناً (البلاذري، فتوح البلدان، تحقيق د. صلاح الدين المنجد، القاهرة 1957 ج1 ص139). وتشير المصادر العربية إلى أن معاوية بن أبي سفيان اشترك في فتح صيدا وسواحل دمشق، وأنه كان في مقدمة الجيش العربي الإسلامي الذي توجه لفتح الساحل، فالبلاذري يذكر أن " يزيد أتى بعد فتح مدينة دمشق صيدا وعرقة وجبيل وبيروت وهي سواحل، وعلى مقدمته أخوه معاوية، ففتحها فتحاً يسيراً وجلا كثير من أهلها". ويورد ابن الأثير نفس النص مع بعض التغيير الطفيف، فيشير فقط إلى مضي أبي عُبيدة إلى فحل وقيام يزيد بغزو صيدا وصور وسواحل دمشق الأخرى (ابن الأثير، الكامل في التاريخ، طبعة دار صادر، بيروت 1965 مجلد 2ص431). ويؤكد البلاذري أن يزيد ابن أبي سفيان وجه معاوية إلى سواحل دمشق، باستثناء طرابلس التي لم يكن يطمع فيها وقتذاك، ففتح معاوية هذه السواحل فتحاً يسيراً، " فكان يقيم على الحصن اليومين والأيام اليسيرة، فربما قوتل قتالاً غير شديد، وربما رمى، ففتحها".
ويختلف المؤرخون في تحديد تاريخ فتح صيدا، فابن الأثير يذكر هذا الحدث في جملة حوادث سنة 13 ه (634م). والبلاذري لايذكر تاريخ قيام يزيد ابن أبي سفيان بهذا الفتح، وإنما يشير إلى أن ذلك تم بعد فتح دمشق. "ومن المعروف أن فتح دمشق تم في رجب سنة 14 ه /635م اليعقوبي، تاريخ اليعقوبي، طبعة دار صادر، بيروت 1960، ج2 ص140. وذكر الطبري نقلاً عن ابن اسحق والواقدي أن دمشق فتحت في سنة 14 ه (تاريخ الأمم والملوك، طبعة دار القاموس الحديث، ج4 بيروت، ص59)". أما فيما عدا ذلك فليس لدينا من النصوص ما يشير إلى تاريخ محدد لهذا الفتح. ومن الثابت أن فتح سواحل دمشق باستثناء طرابلس، تم الفراغ منه في آخر سنة 16 ه (صادر بن يحيى، تاريخ بيروت، تحقيق فرنسيس هورس اليسوعي وكمال سليمان الصليبي، دار المشرق، بيروت 1968 ص12). أو أوائل سنة 17 ه، لأن عام 18 ه/ 639م شهد طاعون عمواس الذي توفي به نحو خمس وعشرين ألفاً من المسلمين، ولذلك لا نستبعد أن يكون يزيد قد فرغ من فتح صيدا في سنة 15 ه /636م ( يخص السيد منير الخوري في كتابه " صيدا عبر حقب التاريخ" صيدا بالذات عند تعرضه لذكر تغلب الروم على السواحل، كما يخصها بالذكر عند حديثه عن استرداد المسلمين لها ص 126. ولا أدري من أي مصدر استقى المؤلف هذه الأخبار عن صيدا).
ولم يلبث البيزنطيون في عهد قنسطانز الثاني، أن تغلبوا على بعض سواحل الشام في بداية خلافة عثمان بن عفان سنة 23 ه/644 م، ولكن معاوية، تصدى لهم واستردها، ثم رمم قلاعها، وشحنها بالمقاتلة، ووزع عليهم القطائع.( البلاذري، ج1 ص150 و ابن الأثير، ج2 ص431). وليس لدينا ما يؤكد أن صيدا كانت في جملة هذه المدن الساحلية التي تغلب عليها اليزنطيون، ثم استردها معاوية، على أننا لا نشك في أن صيدا حظيت باهتمام معاوية، فعني بتحصينها في خلافة كل من عمر ابن الخطاب وعثمان بن عفان فما أن توفي أخوه يزيد في عام عمواس حتى أسند إليه الخليفة الراشد عمر ولاية دمشق بسواحلها بالإضافة إلى فلسطين ولكن عمر فصل القضاء عن السلطة الإدارية، فولي مع معاوية أبا الدرداء الصحابي قضاء دمشق والأردن وصلاتهما، وعُبادة بن الصامت قضاء حمص وقنسرين وصلاتهما (البلاذري، ج1، ص167). وكانت معظم سواحل دمشق قد خُربت قلاعها ودُثرت تحصيناتها، فكتب معاوية إلى عمر بعد أن أسندت إليه ولاية الشام بطبيعة الحال في سنة 18 ه يصف له حال السواحل، وما تحتاج إليه حصونها وقلاعها من ترميم وتجديد، فأمره عمر بترميم حصونها " وترتيب المقاتلة فيها، وإقامة الحرس علىمناظرها واتخاذ المواقيد لها" (البلاذري، ج1 ص152). ويبدو أيضاً أن معاوية تباطأ في ترميم هذه القلاع، وأنه لم يكن قد فرغ من هذه المهمة عندما داهمه البيزنطيون بغزوهم لهذه السواحل في بداية خلافة عثمان بن عفان. فلما تمكن معاوية من إجلائهم عنها كتب إليه عثمان بن عفان يأمره "بتحصين السواحل وشحنها وإقطاع من ينزله إياه القطائع ففعل" (البلاذري، ج1 ص152). ومنذ ذلك الحين كثرت وفود المسلمين إلى السواحلالشامية للرباط.
وهكذا التزم معاوية بادئ ذي بدء بتطبيق سياسة دفاعية عن السواحل لمواجهة الخطر البيزنطي على الثغور الشامية تمهيداً لتطبيق سياسة بحرية هجومية دعامتها الأساطيل، فاهتم بتحصين السواحل متوسلاً في ذلك بوسائل برية، عن طريق ترميم حصونها وأسوارها وترتيب المقاتلة فيها، وتنظيم الحراس على مناظرها، Cheira, la) lutte entre Arabes et Byzantins, Alexandrie, 1947, p. 85) وإقامة الأربطة أو المسالح أو المناظر وشحنها بالمرابطة لمراقبة النواحي التي يقبل منها البيزنطيون في البحر والإنذار باقتراب العدو ليلاً عن طريق إيقاد النار في مواقيد بأعلاها، تنبيهاً للمرابطة والحراس بالخطر الوشيك. (السيد عبد العزيز سالم، تاريخ الإسكندرية وحضارتها في العصر الإسلامي، ص64).
وليس لدينا من النصوص التاريخية ما يشير إلى قيامه بترميم تحصينات صيدا بوجه خاص، ولكننا نفهم ضمناً أن صيدا كانت من بين المدن الساحلية التي حظيت باهتمامه، فقد كانت على الأقل من أهم ثغور دمشق، على أن البلاذري عندما يعدد أسماء المدن التي رممها معاوية لا يذكر صيدا من بينها، وإنما يذكر مدينتين رئيسيتين هما عكا وصور اهتم بترميم قلاعهما قبيل ركوبه البحر غازياً إلى قبرص. ولعل إغفاله لذكر صيدا يرجع إلى أنها لم تكن على مستوى مدينتي عكا وصور من حيث الأهمية الدفاعية ومن حيث الاتساع العمراني، وإن كان يعمم نزول جند العرب في جميع سواحل الشام.
ونستخلص من كل ما سبق أن صيدا _ شأنها في ذلك شأن غيرها من مدن الساحل الفينيقي القديم _ لقيت اهتماماً خاصاً من الخليفتين الراشدين عمر بن الخطاب وعثمان بن عفان بترميم قلاعها وأبراجها، وأن ذلك تم بنظر معاوية وهو بعد عامل على الشام. ولا ينبغي أن ننسى أن صيدا بالذات تعرضت للتخريب والتدمير في كثير من مراحل تاريخها القديم، وأنها ظلت بدون أسوار تحميها فترة طويلة من الزمن منذ أن أحرقها أهلها في سنة 346ق.م. أما صور فقد تركها الإسكندر الأكبر في سنة 332ق.م. أطلالاً دارسة بعد أن خرّب بنيانها ودمر تحصيناتها. ثم إن الصراع طويل الأمد الذي نشب بين خلفائه في مصر وسورية من أجل التنافس في السيطرة على الساحل الفينيقي واستمر حتى قدوم الرومان في سنة 64ق.م، وتعرُّض صيدا للغزو من قبل السلوقيين حيناً والبطالمة حيناً آخر لم يفسح المجال أمام ولاتها ليرمموا ما خربته الحروب ويعيدوا بناء المدينة التعسة التي نزلت في العصر الروماني من عداد المدن الكبرى إلى مصاف المدن الصغرى، وفقدت أهميتها، وذابت شخصيتها حتى الفتح العربي عندما ألحقت بكورة دمشق وأصبحت من الثغور الهامة في العصر الإسلامي. ولا يمكننا أن نقبل بأي حال من الأحوال مزاعم بعض الباحثين الذين يجردون من العرب كل فضل في إعادة تحصينها، ومن بينهم الأستاذ فيليب حتي الذي يؤكد أن حصونها لم تبن ثانية منذ استحالة المدينة إلى ركام من رماد في عهد أرتحششتا الثالث أوخوس حتى زمن الصليبييين (فيليب حتي، لبنان في التاريخ، ص64)، وروبين فيدين الذي يذهب إلى القول بأن صيدا الفينيقية "في رقعة أرضها بنيت وأعيد بناؤها قرناً بعد قرن وتخرّبت مراراً، ولكن درجات تخريبها ووسائل ذلك تغيرت عبر التاريخ، فالآشوريون سووها بالأرض، والفرس أحرقوها بالنار والعرب في حالتين أزالوا أسوارها" (Robin Fedden, Syria,London, 1954, p. 48). وليس لدينا ما نرد به على هذه الافتراءات والأقوال الظالمة سوى أن نذكر نصاً كتابياً هاماً عثر عليه في صيدا يشير إلى بناء برج بأمر من الوزير الأفضل شاهنشاه وزير الخليفة الفاطمي المستعلي بالله على يد الأمير سعد الدولة أبو منصور أشتكين الأفضلي في سنة 491 ه/ 1097م (Repertoire Chronologique d'Epigraphie arabe, t.8 p.40) أي قبل وصول الحملة الصليبية الأولى إلى بلاد الشام بعام واحد، أو الرجوع إلى نص المقدسي البشاري الذي يؤكد أنها مدينة حصينة على الساحل في زمنه ت387 ه (المقدسي، أحسن التقاسيم في معرفة الأقاليم، طبعة ليدن، 1906 ص160 le Strange, Palestine under the Moslems, Beirut, 1065, p. 32/ وراجع أيضاً ما ذكره الدمشقي الذي كتب في سنة 1300م إذ يذكر أن مملكة دمشق كانت تضم تسعين إقليماً من بينها صيدا في "الدمشقي، نخبة الدهر في عجائب البر والبحر، تحقيق مهرن، ليبزج 1928 ص 201"). أو إلى نص ورد في سفر نامة للرحالة الفارسي ناصر خسرو في النصف الأول من القرن الخامس الهجري أي قبل وصول الحملة الصليبية الأولى بنحو نصف قرن يذكر فيه أن لصيدا سور حجري محكم (ناصر خسرو علوي، سفر نامة " النص الفارسي " طبع برلين 1340 ه، ص20)، أو إلى ما ذكره الجغرافي المغربي الإدريسي ت560الذي شاهد على صيدا سوراً من الحجارة (Idrisi, Palaestina and Syria. P. 15).
دخلت صيدا منذ أن افتتحها المسلمون حتى نهاية عصر المماليك في نطاق إقليم دمشق، وأصبحت كورة من إقليم دمشق الذي كان يضم إقليم سنير وكورة جبيل وبيروت وصيدا وبثنية حوران وجولان وظاهر البلقاء وجبرين الغور، وكورة مآب وكورة جبال وكورة الشراة وبصرى عمان والجابية والقريتان والحولة والبقاع، كما أن ساحلها كان من بين سواحل المدن الست التي تتبع دمشق وهي صيدا وبيروت وطرابلس وعرقة وصور (اليعقوبي، كتاب البلدان، ليدن 1928 ص 201). وذكر المقدسي من مدنها بانياس وصيدا وبيروت وطرابلس وعرقة وناحية البقاع ومدينتها بعلبك (المقدسي، أحسن التقاسيم، ص354).
نزل صيدا منذ الفتح جماعة من قريش ومن اليمن ( اليعقوبي، كتاب البلدان ص327 / Marmardji, Textes geographiques arabes sur la Palestine, Paris 1951, p. 125 ) وهو أمر كان يحدث في معظم المدن التي افتتحها المسلمون عندما كانت تختط؟ فيها القبائل العربية التي أسهمت في الفتح. أما البلديون من أهل صيدا القدامى فقد حرص معاوية على إجلائهم عن المدينة إلى مواضع أخرى عيّنها لهم، على أن يحل محلهم قوم من الفرس استقدمهم معاوية من فارس، وفي ذلك يقول اليعقوبي: " إن جبيل وصيدا وبيروت وأهل هذه الكور كلها قوم من الفرس نقلهم إليها معاوية بن أبي سفيان"،
( اليعقوبي، ص 327 / Marmardji, op. Cit. P. 125 -صلاح الدين المنجد، مدينة دمشق عند الجغرافيين والرحالين المسلمين، بيروت، 1967، ص 327)، والظاهر أن صيدا لم تكن وحدها التي طبق فيها هذا التبديل السكاني، لأن البلاذري يشير إلى حركة تبديل سكاني أخرى حدثت وهو خليفة، إذ نقل " قوماً من فرس بعلبك وحمص وأنطاكية إلى سواحل الأردن وصور وعكا وغيرها سنة اثنتين وأربعين، ونقل من أساورة البصرة والكوفة وفرس بعلبك وحمص إلى أنطاكية في هذه السنة أو قبلها أو بعدها بسنة جماعة، فكان من قواد الفرس مسلم بن عبد الله، جد عبد الله بن حبيب بن النعمان ابن مسلم الأنطاكي". ونستنتج من هذا النص أن بعلبك وحمص استوطنهما قبل سنة 42 ه أقوام من الفرس. والظاهر أيضاً أن معاوية حذا في سياسته السكانية، إذ أحل عناصر فارسية وعراقية محل عناصر وطنية، حذو أسرحدون الآشوري عندما افتتح صيدا بالسيف في سنة 678 ق.م ودمر منازلها، ونقل قسماً كبيراً من أهلها إلى بلاده، وأحل محلهم قوماً من الفرس استقدمهم من شرقي الإمبراطورية الآشورية ، Frederick p. 81) - نجيب ميخائيل، ص 155 – يوسف مزهر، ج1 ص 50). ولعل معاوية كان يهدف من وراء هذه الحركة إلى تمييع الشعور القومي عند سكان هذه السواحل الموالين للبيزنطيين حتى لا ينتقضوا مجدداً على المسلمين كما حدث في الإسكندرية في سنة 25 ه/645م (عبد العزيز سالم، تاريخ الإسكندرية، ص 63)، وكما حدث في طرابلس في أول خلافة معاوية
(طرابلس الشام ص 37). مما اضطره إلى اصطناع سياسته السكانية التي أشرنا إليها، أو لعله كان يسعى إلى تمكين الدفاع البري عن السواحل أو لحراسة هذه السواحل من غزوات المردة الذين دفعهم أباطرة بيزنطة على غزو إقليم البقاع والتنغيص على المسلمين في بلاد الشام، ولهذا السبب استقدم جماعات الفرس والأساورة المذكورة وأنزلهم في السواحل، ومنهم الأمراء الإرسلانيون والتنوخيون الذين حكموا بيروت والساحل ( صالح بن يحيى، تاريخ بيروت، ص41)، وإن كان هناك من ينسب أعيان التنوخيين والأرسلانيين (ينتسب التنوخيون إلى تنوخ بن قحطان بن عوف بن كندة بن جندب بن مذحج بن سعد بن طي ابن تميم بن النعمان بن المنذر ملك الحيرة، والإرسلانيون إلى أرسلان بن مالك بن بركات ابن المنذر التنوخي بن مسعود بن عون بن المنذر المغرور آخر ملوك الحيرة "الشدياق، أخبار الأعيان في جبل لبنان، بيروت 1054 ج1 ص 133" وقد أسهم التنوخيون والأرسلانيون ومن قدم معهم من الجذاميين واللخميين في المعارك التي خاضها العرب في الشام، واشتركوا في فتح دمشق سنة 14 ه / 635م وفي فتوح قيسارية ومصر " الشدياق، ج1 ص 141") إلى النعمان بن المنذر بن ماء السماء اللخمي، ويُرجعون تاريخ قدومهم من العراق في صحبة خالد بن الوليد إلى سنة 13 ه التي قدم فيها إلى بصرى لنجدة أبي عبيدة بن الجراح ( الشدياق، ج1 ص 140، 266 – محمد عزة دروزة، العرب والعروبة من القرن الثالث حتى القرن الرابع عشر الهجري، دمشق 1959، ج1 ص 154). وقد يكون هدف معاوية من إنزال هؤلاء الفرس على السواحل مجرد الرغبة في إعادة تعمير هذه السواحل بسكان جدد بعد أن جلا عنها سكانها الأصليون عقب هزائم البيزنطيين في الشام، فأقطعهم الأخائذ! التي خلت من سكانها، أو مجرد التشجيع على انتقال المسلمين إلى السواحل من كل ناحية بهدف الرباط ومدافعة البيزنطيين.
وليس هناك في المصادر العربية ما يؤكد أن معاوية أقام داراً لصناعة الأسطول في صيدا ( ذكر السيد منير خوري أنه ابتنى أسطولاً في صيدا وصور، وهو قول لا يستند على أي سند أو دليل تاريخي)، على الرغم من أن صيدا كانت لها دار صناعتها البحرية في العصر القديم. وتشير النصوص العربية إلى أن معاوية عندما اضطر إلى اصطناع سياسة بحرية مجاراة للبيزنطيين عمل على إنشاء أسطول في دار الصناعة بعكا ( البلاذري، ج1 ص140 – ياقوت، معجم البلدان، مادة عكا)، وهي دار صناعة قديمة كانت قائمة منذ العصر السابق على الفتوحات العربية الإسلامية. ولا نشك في أنه استعان بملاحين من أهل صيدا وصور (غالب الترك، ص 91) في تسيير السفن الإسلامية لسابق خبرتهم ودربتهم في ممارسة البحر، ولم تكن صناعة عكا وحدها كافية لإنتاج أسطول بحري يناهض القوى البحرية البيزنطية التي كان لها التفوق حتى ذلك الحين على المسلمين، ولذلك نراه يرسل أخشاب الأرز من لبنان في السفن إلى الإسكندرية لتصنيعها هناك سفناً. وظلت دار الصناعة في عكا المركز الوحيد في الشام لصناعة السفن إلى أن نقلها الخليفة هشام بن عبد الملك إلى صور، واتخذ بصور فندقاً ومستغلاً (البلاذري، ج1 ص 140). ونخرج من ذلك بأن صيدا لم تكن دار صناعة في العصر الأموي، وإن كنا لا نستبعد قيامها بإنشاء سفن صغيرة وزوارق للصيد.
وعلى الرغم من أن ذكر صيدا لم يرد كثيراً خلال أحداث تاريخ الدولة الأموية إلا أنه يمكننا أن نستنتج من بعض الأخبار الثانوية التي وردت صدفة في المصادر العربية أن صيدا ازدهرت في العصر الأموي، وكانت مركزاً علمياً هاماً في بلاد الشام، فقد نسب إليها الفقيه العالم المحدث هشام بن الغاز بن ربيعة الجرشي الصيداوي المتوفي سنة 156 ه / 772 م وقد روي عن مكحول ونافع وابن المبارك ووكيع ( ياقوت، معجم البلدان، مادة صيدا، ص438)، والعالم المطران بولس الأنطاكي الذي توفي في صيدا في سنة 154 ه / 770 م ( منير الخوري، ص 135). ونستدل أيضاً من نقش كتابي أثري كشف عنه في صيدا أن الخليفة الأموي مروان بن محمد أمر بإصلاح ميناء صيدا وترميمه في سنة 132 ه، وأن ذلك تم على يدي زياد بن أبي الورد.
(Repertoire Chronologigue d’Epigraphie arabe, t. I, p. 29)
وهذا النص له أهميته الخاصة لأنه يشير إلى أن ميناء صيدا أصبح محل اهتمام الخلفاء باعتباره قاعدة بحرية لأنه يشير إلى أن ميناء صيدا أصبح محل اهتمام الخلفاء باعتباره قاعدة بحرية هامة للسفن التجارية والغازية على السواء. وقد ازداد اهتمام الخلفاء العباسيين بسواحل الشام: فقد اهتم أبو جعفر المنصور بتحصين سواحل الشام كلها بالحصون والمراقب وترميم ما يحتاج منها إلى المرمة، وأتم المهدي ما لم يستكمل في أيام المنصور منها وزاد في شحنها بالجند ( البلاذري، ج1 ص 193). وفي سنة 247 ه /862م أمر المتوكل على الله بترتيب المراكب بعكا وجميع السواحل ( نفس المصدر، ص 140) وشحنها بالمقاتلة ومن جملتها صيدا بطبيعة الحال، وذلك كإجراء وقائي بعد الغارات البحرية المدمرة التي وجهها البيزنطيون على دمياط في سنة 238 ه / 852م عندما هاجمها أسطول من 300 من الشلنديات في غيبة وإليها بالفسطاط، فدخلوا المدينة ونهبوها، وقتلوا عدداً كبيراً من سكانها، وأحرقوا جامع دمياط وعدة كنائس (الطبري، تاريخ الأمم والملوك، حوادث سنة 238 – الشيال، المجمل في تاريخ دمياط، الإسكندرية، 1949، ص10 – السيد عبد العزيز سالم ومختار العبادي، تاريخ البحرية الإسلامية في المغرب والأندلس، بيروت، 1969 ص 87). ومنذ هذه الغارة ازداد اهتمام المتوكل بأمر الأسطول، وجعلت الأرزاق لغزاة البحر
( المقريزي، الخطط المقريزية، طبعة بيروت، 1959 ج1 ص 378).
ويبدو أن الدولة العباسية كانت تسند ولاية صيدا إلى أفراد من البيت الأرسلاني أو التنوخي أمراء الغرب استمراراً للسياسة التي جرى عليها الأمويون، ففي سنة 257 ه / 871م تولى الأمير النعمان بن عامر الأرسلاني الذي يرتفع نسبه إلى المنذر بن النعمان من ملوك الحيرة مدينة بيروت بالإضافة إلى صيدا وجبلهما بأمر أماجور التركي عامل دمشق وأعمالها من قبل الخليفة العباسي ( الشدياق، أخبار الأعيان، ج2 ص283 – داود خليل كنعان، بيروت في التاريخ، ج1، بيروت 1963 ص 21) المعتمد على الله، ولقبه أمادور بأمير الدولة. وظل الأمير النعمان يتولاها إلى أن توفي أماجور في سنة 264 ه / 879م، فآلت إلى أحمد بن طولون والي مصر. والظاهر أن ابن طولون أقر الأمير النعمان على صيدا وبيروت لما اشتهر به من شجاعة وكياسة وفصاحة وعلم حتى وفاته في 325 ه / 936 م فخلفه عليها ابنه الأمير المنذر ( نفس المرجع، ج2 ص286).
خضعت صيدا ومدن الساحل للطولونيين بحكم تبعيتها لدمشق، ومن المعروف أن ابن طولون اهتم بتحصين المدن الساحلية، وتشير المصادر العربية إلى أنه أحاط عكا بسور منيع وشد مينائها سلسلة لمنع السفن من اجتيازه ( ياقوت، معجم البلدان، مادة عكا) على مثال السلسلة التي اشتهرت بها المهدية ( السيد عبد العزيز سالم، المغرب الكبير، ج2 : المغرب الإسلامي، الإسكندرية 1966 ص 606) وصور ( المقدسي، أحسن التقاسيم، ص 174)، والسلسلة التي أقامها صلاح الدين خليل بن عرام والي الإسكندرية في سنة 771 ه / 1369 م بعد غزوة القبارصة (تاريخ الإسكندرية وحضارتها، ص 376).
وفي متحف بيروت قطعة من الحجر نقش عليها بالخط الكوفي نص تاريخي مؤرخ سنة 284 ه يسجل إنشاء بناء لم نستطع تحديد نوعه بسبب الفراغات غير المقروءة في النص، ونطالع في النص المذكور ما يلي: ( أمير المؤمنين أطال الله بقاءه … كيم الله و… لا … بناه وأنفقه … سنة أربع وثمانين ومائتين … وأر…). وفي متحف بيروت أيضاً نقشان كتابيان على قطعتين من الحجر من مدينة صيدا يرجع تاريخهما إلى عهد الخليفة العباسي المعتضد بالله
arabe, t. II, p. VIII) (Repertoire Chronologique d'Epigraphie
279 – 289 ه ، ولكن ما تبقى عليهما من الكلمات لا يدل على عمل إنشائي بصيدا. ومن الملاحظ أن اسم الأمير الطولوني أبو العساكر جيش لم يذكر في النقش الكتابي الأول، كما أن اسم الأمير الطولوني هارون بن خمارويه لم يذكر في النصين الآخرين، ويرجع السبب في ذلك إلى خروج الشام عليهما.
ثم أصبحت بلاد الشام الجنوبية بما فيها دمشق وبعلبك ومدن الساحل: صور وصيدا وبيروت وطرابلس تابعة للبيت التركي الإخشيدي في مصر (Grousset, Histoire des Croisades, Paris 1934,t. I, p. VIII) بعد أن حصل محمد بن طغج بن جف الإخشيد على تقليد من الخليفة المتقي بالله في سنة 333 ه بولاية مصر والشام وتوريث إمارتها لأبنائه من بعده ( محمد جمال الدين سرور، النفوذ الفاطمي في بلاد الشام والعراق، القاهرة 1959 ص 11)، واستقر الوضع على هذا النحو في عصر الأسرة الإخشيدية، على الرغم من المشاكل التي أثارها الحمدانيون، والتي اقتضت من الإخشيديين أن يدفعوا لهم جزية سنوية (أبو المحاسن بن تغرى بردى، النجوم الزاهرة في ملوك مصر والقاهرة، طبعة دار الكتب المصرية، القاهرة 1938 ج3 ص 278، 282).
وقد ازدهرت صيدا في هذا العصر في المجال العلمي والأدبي، فظهر من علمائها أبو طاهر بن ذكوان البعلبكي المؤدب نزيل صيدا ومحدثها ت 360 ه ( الذهبي، العبر في خبر من غبر، تحقيق الأستاذ فؤاد سيد، الكويت 1961، ج2 ص 318) والحافظ الصيداوي أبو الحسن محمد بن أحمد بن يحيى ابن جميع الغساني 305-406 ه / 917-1011م وكان قد رحل في طلب الحديث إلى مصر والعراق والجزيرة وفارس، وسمع فأكثر السماع، وجمع لنفسه معجماً لشيوخه سماه المسند ( ياقوت، معجم البلدان، مجلد 3، مادة صيداء ص 437 – محمد مرتضى الزبيدي، تاج العروس، ج2 ص403)، وأبو نصر علي بن الحسين ابن أحمد بن أبي سلمة الوراق الصيداوي، وعبد الغني بن سعيد الحافظ، وقد روي عن ابن جميع (نفس المصدر، ص 438)، وأبو عبد الله المحسن بن علي بن كوجك من أهل الأدب ت فيما يقرب من 394 ه، الذي أملى بصيدا حكايات مقطعة بعضها عن ابن خالويه، وكان يعقد الاجتماعات في محرس "غرق" بصيدا ويجلس في قبة نقشت عليها أشعار وأسماء من يحضر جلسته من أصحابه ( ياقوت، معجم الأدباء، طبعة دار المأمون، ج17 ص90).
ولم تزودنا المصادر العربية بأي مادة تعيننا على تصور الحالة الاقتصادية والعمرانية في صيدا في هذه المرحلة من تاريخها الإسلامي، ولكننا نستنتج من وصف المقدسي البشاري ت 375 ه/ 985م أنها كانت مدينة عامرة حصينة ( المقدسي، ص160 – Marmardji, op. Cit. P. 125) وإن لم تكن تصل في الحصانة والمنعة إلى ما وصلت إليه مدينة صور التي وصفها ابن حوقل بقوله أنها من " أحصن الحصون التي على شط البحر عامرة خصبة" ( ابن حوقل، صورة الأرض، بيروت، ص 160، ويشير المقدسي إلى أنها " مدينة حصينة على البحر بل فيه، يدخل إليها من باب واحد على جسر واحد، قد أحاط البحر بها، ونصفها الداخل حيطان ثلاثة بلا أرض تدخل فيه المراكب كل ليلة، ثم تجر السلسلة"), كما نستنتج مما أورده المقدسي عن اقتصاديات صور التي كانت تشترك مع صيدا في الإنتاج الزراعي والصناعي بحكم التاريخ المشترك وبحكم الجوار إلى حد أن اسمها اقترن كثيراً باسم صيدا، أن الصناعات التي عددها المقدسي كانت لها نظائر في صيدا، كالسكر والخرز والزجاج المخروط والمعمولات ( المقدسي، ص180). أما السكر فلأن ناصر خسرو الذي زار صيدا في سنة 1047 م يؤكد توافر قصب السكر بها ( ناصر خسرو، ص 20  Le Strange, op. Cit. P. 346)، وأما الزجاج فلأن صناعته من التقاليد الشعبية المحلية التي ارتبطت باسم صيدا في التاريخ القديم والوسيط.




(أ) الاسترداد الإسلامي لصيدا
   صمم صلاح الدين في سنة 583 ه / 1187 م على وضع حد لأعمال القرصنة التي كان يمارسها الإبرنس أرناط ( رينو دي شاتيّو صاحب حصن الكرك) ومهاجمة مملكة بيت المقدس، وذلك عندما أقدم أرناط المذكور على نقض معاهدة الصلح المبرمة بينه وبين صلاح الدين قبل نفاذ مدتها بعامين، وكانت تنص على حرية مرور القوافل ما بين الشام ومصر دون أن يتعرض لها عسكر أرناط، فهاجم أرناط في سنة 582 ه قافلة كبيرة مشحونة بالمتاجر والأموال في حراسة جماعة من الجند المسلمين، فغدر بهم أرناط وغنم أموالهم ودوابهم وأسلحتهم، وأودع من أسره منهم في السجون (ابن الأثير،  ج11 ص528)، وفي ذلك يقول ابن واصل في كتابه مفرج الكروب: "كان الإبرنس أرناط صاحب الكرك كثير الغدر والخبث، وكان قد هادن السلطان وسالمه، فأمنت الطريق بين مصر والشام، وتواصلت القفول حتى كان يمكن الذاهب والجائي، ثم إنه لاحت له فرصة في الغدر، فغدر بقافلة عظيمة فيها نعم جليلة فأخذها بأسرها، وكان معهم جماعة من الأجناد فأسرهم وحملهم إلى الكرك وأخذ خيلهم وعدتهم، فأرسل إليه السلطان وقبّح فعله، فأسامه إطلاقهم، فامتنع وأصر على عصيانه، فنذر السلطان دمه، وأعطى عهداً إن ظفر به أن يستبيح مهجته" (ابن واصل، مفرج الكروب، تحقيق الدكتور جمال الدين الشيال، ج2 ص185).
   وفي نفس الوقت نكث ريمون الثالث صاحب طرابلس بالاتفاقية التي أبرمها مع صلاح الدين في سنة 581 ه / 1185 م ودخل في طاعة جي دي لوزنيان ملك بيت المقدس، وأزال بذلك أسباب الخلاف الذي كان قائماً بينه وبين جي، وعندئذ بادر صلاح الدين بالعمل، فزحف إلى طبرية وكانت ملكاً لأشيفا زوجة ريمون الثالث في 21 ربيع الآخر سنة 583 ه / يوليو 1187 م، ودخلها المسلمون (العماد الأصفهاني، الفتح القسي، ص76 – أبو الفداء، المختصر في أخبار البشر، ج5 ص95)، ونهبوها ثم أحرقوها (ابن الأثير، ج11 ص533). فلما بلغ الفرنج ذلك عزموا على السير لقتال المسلمين بتحريض من أرناط صاحب الكرك، واشتبك الفريقان في 25 ربيع الآخر سنة 583 ه في حطين، وأحط المسلمون بالفرنج من كل جانب، فلما أيقن ريمون بالهزيمة تحايل على النجاة بنفسه، ففتح له تقي الدين عمر ابن أخي صلاح الدين ثغرة خرج منها مع نفر من أصحابه (ابن شداد "القاضي بهاء الدين أبو المحاسن يوسف بن رافع": النوادر السلطانية والمحاسن اليوسفية، تحقيق الدكتور جمال الدين الشيال، القاهرة، 1964 ص77 – العماد الأصفهاني، الفتح اقسي، ص19 – ابن الأثير، ج11، ص535 – أبو الفداء، المختصر ج5 ص95 – أبو المحاسن بن تغري بردى، النجوم الزاهرة، ج6 ص32)، كذلك شق باليان أبلين صاحب بيروت وأرناط صاحب صيدا لنفسيهما طريقاً خارج أرض المعركة (رنسيمان، ج2 ص740). وهكذا انهزمت قوى الصليبيين مجتمعة بعد أن قتل منهم نحو ثلاثين ألفاً، ووقع في أسر المسلمين ملك الفرنج وأخوه والبرنس أرناط صاحب الكرك وصاحب جبيل ومقدم الداوية وجماع من الداوية والاسبتارية،واستغل صلاح الدين هذا الانتصار الحاسم، فأخذ يستولي على قلاع الصليبيين ومدنهم، فسقطت مدينة عكا في أيدي المسلمين في مستهل جمادى الأول، واستولى المسلمون بعد ذلك على العديد من المدن والحصون هي على الترتيب: الناصرة وقيسارية وحيفا وصفورية ومعليا والشقيف (شقيف تيرون) والفولة ومجدليابة ويافا. ثم عهد صلاح الدين إلى تقي الدين عمر بمنازلة قلعة تبنين، ولكن هذه القلعة كانت من المناعة والحصانة بحيث استعصى على تقي الدين عمر فتحها وحده دون الاستعانة بعمه، فأرسل إليه يحثه على الوصول إليه، فقدم إليه صلاح الدين وحاصرها حصاراً شديداً حتى سقطت في 16 جمادى الأول.
   وما إن سقطت تبنين في يد صلاح الدين حتى زحف نحو صيدا في حشود هائلة تجر وراءها آلات الحصار من جروخ لرمي السهام والنفط المشتعل، وجفاتي وهي حواجز لإعاقة تقدم العدو ويستتر وراءها الجند الرماة أثناء القتال، والدبابات وهي أشبه بأبراج متحركة على عجلات وبها طبقات من خشب أو حديد أو رصاص تستقر بداخلها الجنود لمهاجمة الحصون أو لتسلق السوار، والصبابات وهي آلات لقذف السهام (وردت هذه الاصطلاحات الحربية في : الفتح القسي للعماد، ص104، 105). ثم اجتاز صلاح الدين وهو في طريقه إلى صيدا ببلدة الصرفند "فأخذها صفواً عفواً بغير قتال" (ابن الأثير، ج11 ص542). ثم واصل زحفه من هناك إلى صيدا، فلما علم أرناط صاحب صيدا بمسيره إليه بادر بالانسحاب منها وتركها فارغة من غير مانع ولا مدافع، وجاءت رسل صاحبها بمفاتيحها إلى السلطان، وارتفعت أعلامه الصفر على أسوارها في 21 من جمادى الأول / 29 يوليو 1187. (ابن الأثير، ج11 ص542 – ابن واصل، ج2 ص206 – ابن العديم، زبدة الحلب في تاريخ حلب، ج3، دمشق، 1968 ص97 – أبو الفداء، المختصر، ج5 ص96 – ابن الوردي، ج2 ص147 – السلوك، ج1 قسم 1 ص 95. ويذكر صاحب البستان الجامع أن صلاح الدين فتحها في 28 جمادى الأول سنة 582، وهو تاريخ غير موثوق به 
Claude Cahen, une Chronique Syrienne du VI e siecle, Bulletin d'Etudes
Orientales de l'Institut Francais de Damas, t. VII – VIII, p. 146). ويعلق العماد الأصفهاني على فتحها بقوله: "وسنحت له صيدا، فتصدى لصيدها، وكانت همته في قيدها، وبادرها إشفاقاً من مكر العداة وكيدها…" ( العماد الأصفهاني، ص102، 103).   
   وأقام صلاح الدين بصيدا يوماً ريثما قرر قواعدها، ثم واصل زحفه إلى بيروت، فتحصن الفرنج بها، وصعدوا على سورها، وناشبوه القتال عدة أيام، فنصب صلاح الدين عليها المجانيق، ودخلها صلحاً في 29 جمادى الأول أي بعد ثمانية أيام من شروعه في حصارها ( ابن الأثير، ج11 ص543 – ابن شداد، النوادر السلطانية من R. H. C. , t. III; ص98). ثم مر صلاح الدين بصيدا بعد أن فرغ من فتح بيروت وجبيل في طريقه إلى عسقلان (العماد الأصفهاني، ص112).
   أما أرناط صاحب صيدا والشقيف، فقد فر إلى قلعة شقيف أرنون، وأقام فيها منذ أن انتزع منه صلاح الدين صيدا حتى أتبعها بالشقيف في سنة 585.
   أسند صلاح الدين ولاية صيدا وبيروت بعد أن افتتحهما في سنة 583 ه إلى الأمير سيف الدين علي بن أحمد بن المشطوب الهكاري (العماد الأصفهاني، ص152 – ابن واصل، ج2 ص242)، وكان أميراً جليل القدر وقائداً شجاعاً أبلى بلاءً حسناً في الفتوحات الصلاحية، وتوفي ابن المشطوب في سنة 588 ه / 1192 م ( ابن العماد، شذرات الذهب، ج4 ص294). وقد أسهم ابن المشطوب في أثناء ولايته لصيدا في إمداد مسلمي عكا بالطعام والقوات من صيدا عندما اشتد عليهم الغلاء في شتاء سنة 586 ه، ولولا ذلك لهلكوا جوعاً (ابن الأثير، ج12 ص54). واستغل ابن المشطوب وغيره من أمراء صلاح الدين فرصة حلول الشتاء، وخلو ميناء عكا من سفن الصليبيين المحاصرة له ودخل المدينة متسللاً في بداية سنة 587 ه، وكان من بين الأسرى الذين أسرهم الصليبيون عند استيلائهم على عكا في 17 جمادى الثاني سنة 587 ه (نفس المصدر، ج12 ص66، 67).
   إهتم صلاح الدين بعد أن فرغ من فتح صيدا وتبنين بتحصينهما بقصد حمايتهما من الأخطار المحيطة بهما والممثلة في فرنج صور، ويعبر العماد الأصفهاني عن ذلك بقوله: "ولما فرغ من شغل صيداء وتبنين وجمع لهما التحصين والتحسين قال لعصمة الله: " شيدي ما بصيداء وتبنين تبنين، وألحفيهما رداء الحماية فما يضيع ما تحفظين، ولا يطرق ما تحمين" (العماد الأصفهاني، ص104)، ثم نقل إلى صيدا بعض الآلات التي كان قد استخدمها في حصار صور (نفس المصدر، ص174).
   وحدث أثناء الفترة التي أقامها صلاح الدين في مرج عيون في انتظار اللحظة التي يسلمه أرناط حصن شقيف أرنون، أن جاءته كتب من قواده الذين كان قد عهد إليهم بمهمة مواجهة الفرنج في صور يبلغونه فيها أن الفرنج قد أجمعوا على عبور جسر صور، وأنهم عزموا على السير نحو صيدا ومحاصرتها، فخرج صلاح الدين في فرقة من أصحابه لمواجهة الفرنج، ولكنه وصل في أعقاب معركة نشبت بين قواته المعسكرة خارج صور وبين حشود الفرنج، دارت فيها الدائرة على الفرنج، وعجزوا عن الوصول إلى صيدا (ابن الأثير، ج12 ص 29). ويرجع السبب في خروج الفرنج نحو صيدا إلى أن ضاقت عليهم باطنها وظاهرها، وامتلأت بالرجال والأقوات والذخائر، فلما فشلوا في خطتهم بالنسبة لصيدا تحولوا إلى عكا (ابن الأثير، ج12، ص33).
   أثار سقوط بيت المقدس في يد صلاح الدين في 27 رجب سنة 583 ه / 12 أكتوبر سنة 1187 ثائرة العالم المسيحي، وكان حافزاً على قيام الحملة الصليبية الثالثة (1189 – 1191 م) التي اشترك فيها الإمبراطور فريدريك بربروسة والملك فيليب أغسطس والملك ريتشارد قلب الأسد. أما فريدريك فقد مات غريقاً عقب وصوله إلى نهر سلوقية وذلك أثناء عبوره لأحد الأنهار ولم يصل من قواته إلى عكا إلا أعداد قليلة، في حين تمكن ريتشارد وفيليب من الاستيلاء على عكا بعد حصار طويل وذلك في 17 جمادى الآخر سنة 587 ه / 1191 م. وكان ريتشارد قد سئم القتال خاصة بعد رحيل الملك فيليب إلى بلاده، ولكن ذلك لم يمنعه عند قيامه بمفاوضة الملك العادل أخي صلاح الدين من الإصرار على المطالبة بكل فلسطين، وكان من الطبيعي أن يرفض المسلمون مطالبه، فاستؤنفت الحرب من جديد بين المسلمين والصليبيين، وحدثت موقعة أرسوف سنة 1191 م التي أسفرت عن هزيمة للجيش الإسلامي، وتبع ذلك سير الصليبيين نحو يافا، ثم عاود ريتشارد بالاتصال العادل في أكتوبر من نفس السنة لإجراء مفاوضات جديدة لعقد الهدنة، وفي هذه المفاوضات الثانية طالب ريتشارد ببيت المقدس والإقليم الواقع غربي نهر الأردن، كما طالب باستعادة صليب الصلبوت (رنسيمان، ج3 ص115 )، ولكن صلاح الدين اعترض على هذه المطالب، وتمسك بالاحتفاظ ببيت المقدس في أيدي المسلمين. وكان ريتشارد قد أبدى إعجابه بالعادل، لما لمسه فيه من روح الفروسية وبراعة دبلوماسية، فاقترح على الجانب الإسلامي أن يتزوج العادل من أخته جوانا ملكة صقلية التي ينوي ريتشارد أن يخصها بكل ما فتحه من مدن الساحل بما فيها عسقلان، على أن يقيم الزوجان في بيت المقدس التي يجب أن تفتح أبوابها للمسيحيين، كما اشترط على المسلمين إعادة صليب الصلبوت، وإطلاق الأسرى من الجانبين وأن ترد إلى الداوية والاسبتارية ممتلكاتهم في فلسطين. ولكن جوانا لم تقبل الزواج من مسلم، وفي هذه الآونة قدم إلى معسكر صلاح الدين أرناط صاحب صيدا وقلعة الشقيف السابق رسولاً من قبل كنراد صاحب صور، يعرض على صلاح الدين أن يتنازل له عن صيدا وبيروت وتكون الجبليات كلها أو تكون مناصفة، وشرط على نفسه في مقابل ذلك مجاهرة الفرنج بالعداوة واستعداده لقصد عكا ومحاصرتها واستخلاصها للمسلمين (ابن شداد، النوادر السلطانية، ص202 – ابن واصل، ج2 ص372 – رنسيمان، ج3 ص117)، وبحث صلاح الدين الاقتراحين في مجلس عقده لذلك الغرض، تقرر فيه قبول اقتراح ريتشارد من حيث المبدأ وذلك لعدم ثقة المسلمين بكنراد ( نفس المصدر، ص203) غير أن حاشية همفري رسول ريتشارد ساءهم ما شهدوه من خروج أرناط صاحب صيدا السابق للصيد في صحبة العادل، فتوقفت مفاوضات الصلح فترة من الوقت ثم استؤنفت من جديد، ومضى العادل في 20 مارس سنة 1192م إلى معسكر ريتشارد يحمل عرضاً محدداً بمقتضاه يحتفظ الصليبيون بما سبق أن فتحوه، وأن يحق لهم الحج إلى بيت المقدس، وإضافة بيروت إليهم بعد أن يقوم المسلمون بتخريب تحصيناتها، واقترح ريتشارد تتويج كنراد ملكاً على بيت المقدس، ولكن كنراد لم يلبث أن قتل على أيدي الفداوية الاسماعيلية في أبريل سنة 1192، وأخيراً عقدت معاهدة الصلح في 2 سبتمبر سنة 1192 م / 20 شعبان سنة 588 ه بين الجانب الصليبي والجانب الإسلامي على أساس أن تكون المدن الساحلية حتى يافا في الجنوب للصليبيين، على أن يحتفظ المسلمون بصيدا وبيروت وجبيل (صالح بن يحيى، ص21) مع إتاحة حرية الحج للمسيحيين وتدمير عسقلان (رنسيمان، ج3 ص122، 123).
   توجه السلطان صلاح الدين بعد عقد الصلح إلى القدس، حيث أقام عدة منشآت، ثم رحل في 5 من شوال إلى دمشق ماراً بالثغور الإسلامية كنابلس وطبرية وصفد وتبنين، وقصد بيروت، وأقام بها عدة أيام. ويشير المؤرخون إلى أنه تعهد هذه المدن بعنايته وأمر بإحكامها وتحصينها (ابن الأثير، ج12 ص87). ولا شك أنه مر بصيدا في طريقه إلى بيروت، وأن صيدا كانت من بين المدن التي حظيت باهتمامه. ثم توفي صلاح الدين في 27 من صفر سنة 589 ه/ 1193 م، وخلفه ابنه العزيز عثمان أبو الفتح على مصر والأفضل نور الدين علي على دمشق والساحل وبيت المقدس وبعلبك وصرخد وبصرى وبانياس وهونين وتبنين وجميع الأعمال  إلى الداروم، والظاهر على حلب وأعمالها جميعاً، وعلى حماة محمود بن تقي الدين عمر. وكان العزيز عثمان قد أسند ولاية صيدا وأعمالها إلى فارس الدين وشمس الدين سنقر، وزادهما نابلس وبلادها بعد ذلك (ابن واصل، ج3 ص11 – المقريزي، السلوك ج1 قسم 1 ص115). ثم آلت ولاية صيدا إلى الأفضل ملك دمشق الذي أقطعها إلى ولده الملك المعظم، فأنعم بها هذا الأخير بدوره إلى أخيه الملك المغيث يوسف في سنة 592 ه / 1195 م، وظلت صيدا في حوزة المغيث يوسف حتى وفاته في سنة 630 ه / 1232 م (ابن شداد، الأعلاق الخطيرة، ص99، 100).
   وشغل خلفاء صلاح الدين بنزاعاتهم الصغيرة وخلافاتهم الداخلية حول مناطق النفوذ، وهيأوا بذلك للفرنج الفرصة لكي ينعموا بفترة من السلام، ولكي يجنوا مكاسب جديدة على حساب المسلمين. وكان يتولى بيروت الأمير عز الدين أسامة بن منقذ الذي كان يرسل الشواني!! في البحر ليقطع الطريق على الإفرنج، فاشتكى الإفرنج أكثر من مرة إلى كل من العادل بدمشق والعزيز عثمان بالقاهرة، فلم يمنعا أسامة عن عملياته البحرية، فاضطروا إلى الاستنجاد بملوك المسيحية في أوروبا، فوصلتهم إمدادات من الغرب معظمها من الألمان، فلما بلغ العادل ذلك  استولى على يافا قهراً بالسيف (ابن الأثير، ج12، ص126). وفي نفس الوقت توفي هنري ملك بيت المقدس (الكندهري) وخلفه أملريك الثاني ملك قبرص الذي صمم على استرجاع جميع الأراضي التي كان صلاح الدين قد انتزعها من الصليبيين على أثر انتصاره في حطّين، بقدر استطاعته، ووجد في نفاذ أمد الهدنة المنعقدة مع المسلمين مبرراً لاستئناف الاشتباكات الحربية، لا سيما بعد أن وصلت حملة هنري الرابع الألماني، فأصدر أملريك أمره إلى الإفرنج بالتجمع في عكا والزحف شمالاً نحو بيروت، وعندما علم العادل بهذه التحركات عزم على تخريب المواقع الساحلية الإسلامية التي يخاف ألا يتمكن من إحكام الدفاع عنها، على ألا يتم تخريبها إلا بعد إجلاء الأهالي عنها إلى مناطق داخلية مأمونة. فسيّر لهذا الغرض فرقة من عسكره إلى بيروت، هدموا سور المدينة في 7 ذي الحجة سنة 593 ه / أكتوبر سنة 1197 م، وشرعوا في تخريب دورها وتدمير قلعتها ومرافقها عندما عارضهم أسامة ابن منقذ متولي بيروت، ومنعهم من إنجاز مهمتهم بحجة قدرته على الدفاع عنها وتعهده بحفظها. ثم رحل الإفرنج الألمان من عكا إلى صيدا، في نفس الوقت الذي عاد فيه عسكر المسلمين من بيروت، فاشتبك الجانبان في نواحي صيدا في 9 ذي الحجة سنة 593 ه / 22 أكتوبر سنة 1197 م ولكن هذه الاشتباكات لم تسفر عن نتائج حاسمة، وبادر الإفرنج بمواصلة الزحف نحو بيروت، فلما اقتربوا منها أسرع أسامة وجميع من معه من المسلمين بالفرار عنها إلى صيدا (ابن الأثير، ج12 ص127 – الأعلاق الخطيرة، قسم 2 ص100 – الذهبي، العبر في خبر من غبر، ج4 ص281 – ابن خلدون، ج5 ص726 – صالح بن يحيى، ص21) ظناً منهم بأن الإفرنج استولوا على بيروت، تاركين هذه المدينة الأخيرة غنيمة باردة للإفرنج الذين تمكنوا من دخولها من غير قتال في 10 من ذي الحجة سنة 593 ه / 23 أكتوبر.
   أما أسامة فقد لامه الناس على تفريطه في الدفاع عن بيروت، وأصبح تسليم المدن الإسلامية للإفرنج منذ ذلك الحين بدون حرب تقليداً سنّه أسامة، وفي ذلك يقول أحد الشعراء متهكماً عندما حاصر الإفرنج حصن تبنين في سنة 595 ه / 1198 م، موجهاً القول إلى صاحب الحصن:
          سلّم الحصن ما عليك ملامـة         لا يلام الذي يروم السلامة
          فعطاء الحصون من غير حرب          سنّة سنّها ببيروت أسامـة
(صالح بن يحيى، ص22).
   وعندما علم السلطان الملك العادل بسقوط بيروت في أيدي الإفرنج أرسل إلى صيدا طائفة من عسكره لتخريب "ما كان بقي منها، فإن صلاح الدين كان قد خرب أكثرها" (ابن الأثير، ج12 ص127 – الأعلاق الخطيرة، قسم 2 ص100 – السلوك، ج1 قسم 1 ص140  Stevenson, pp. 295 – 296)، وقد تم ذلك في ذي الحجة سنة 593 ه. وسارت عساكر المسلمين إلى صور بعد ذلك، فقطعوا أشجارها وخربوا أبراجها وقراها. ثم قدم الإفرنج إلى صيدا وتبنين وشرعوا في حصارهما في يناير سنة 1198 م، وازداد الضغط على الحامية الإسلامية في صيدا إلى حد أنهم أوشكوا على تسليمها للإفرنج، ولكن اقتراب تعزيزات إسلامية بقيادة العزيز عثمان بنفسه للدفاع عنها أرغم اللاتين على رفع الحصار عنها وعن تبنين في 2 فبراير سنة 1198 م / 595 ه، ثم أبحر جماعة من الإفرنج الألمان إلى بلادهم بعد أن جاءت الأنباء بوفاة إمبراطورهم. وهكذا كان الجانبان الإسلامي والصليبي متلهفين على عقد الصلح، فقد كان اللاتين من الضعف، والمسلمون من الانقسام والتفرق بحيث لم يكن من الممكن أن يواصل أي منهما الحرب، وعلى هذا النحو تم الاتفاق بين الجانبين الإسلامي والصليبي في أول يوليو سنة 1198 م / شعبان 594 ه على أن يسود السلام حتى ربيع سنة 1204 م إلا إذا قدمت حملة صليبية جديدة إلى الأراضي المقدسة. وأقر الجانبان الأوضاع الراهنة، فظلت يافا التي كان العادل قد هدم أسوارها، تابعة للمسلمين، وفي مقابل ذلك وافق العادل على أن يحتفظ اللاتين ببيروت وجبيل، كما وافق على مناصفة صيدا بين الإفرنج والمسلمين (رنسيمان، ج3 ص180  Stevenson, pp. 295 – 296.).
   ثم قدم إلى عكا في سنة 598 ه / 1202 م جماعة من الفلمنكيين، ولحق بهم في العام التالي جماعات قليلة من الفرنسيين، فطالبوا أملريك بالسير لمقاتلة المسلمين، ولكن أملريك آثر الانتظار بعض الوقت ريثما تواتيه الفرصة لشن هجوم شامل على المسلمين. وحدث بعد ذلك أن تمكن الأسطول الإسلامي من أسر سفينتين صليبيتين من سفن قبرص بالقرب من صيدا، وأدى هذا الاعتداء من جانب المسلمين إلى تجدد الاشتباكات، ونقض معاهدة 1198م. واتخذ أملريك من هذا الحادث ذريعة لبث الغارات على الأراضي القريبة من عكا. وفي أثناء ذلك جاءت الأنباء بانحراف الحملة الصليبية الرابعة عن مقصده إلى الاستيلاء على القسطنطينية في سنة 600 ه / 1204 م (راجع التفاصيل في: عمر كمال توفيق، تاريخ الإمبراطورية البيزنطية، الإسكندرية، 1967، ص157 وما يليها)، وأدى ذلك إلى خروج كثير من الإفرنج إلى بيزنطة. وكان من الطبيعي أن يسعى أملريك إلى طلب الصلح، ولم يكن العادل بأقل منه رغبة في ذلك، إلى حد دعاه إلى أن يقبل تنازلات إسلامية جديدة لصالح الصليبيين، إذ كان يخشى أن تتعرض مصر لهجوم موجه من القسطنطينية (رنسيمان، ج3 ص188  Frederick, p. 93 – Stevenson, p. 297 – Wolfgan Muller – Wiener, Castles of the Crusaders, New-York, 1966, p. 23) . وتم عقد الصلح في سنة 601 ه / سبتمبر 1204 م، وبمقتضاه تنازل للصليبيين "عن جميع المناصفات في صيدا والرملة وغيرهما، وأعطاهم ناصرة وغيرها" (ابن الأثير، ج12 ص195 – المقريزي، السلوك، ج1 ص164 ). وهكذا قضت معاهدة سنة 1204 بأن يتقاسم الصليبيون والمسلمون موارد صيدا.
   تجدد القتال بين المسلمين والصليبيين في سنة 614 ه / 1217م بسبب وصول إمدادات أوروبية جديدة إلى هؤلاء الصليبيين ممثلة في الحملة الصليبية الخامسة، ثم اجتمع الصليبيون في عكا، فبادر الملك العادل بالقدوم من مصر إلى الشام، فوصل إلى الرملة ومنها إلى لد، وزحف الصليبيون من عكا نحوه، فتحركت قوات العادل نحو بيسان، فسار إليه الإفرنج بقصد محاربته، ولكن العادل تجنب لقاءهم لقلة عسكره، وانسحب إلى مرج الصفر بالقرب من دمشق لحشد مزيد من الجند، وفسح المجال بذلك أمال الإفرنج للعبث في البلاد، فبثوا السرايا في الأراضي الممتدة من بيسان إلى بانياس، ونهبوا القرى والحصون، ثم قصدوا صور، ومنها زحفوا إلى الشقيف، فنهبوا صيدا والشقيف، وعادوا بعد ذلك إلى عكا (ابن الأثير، ج12 ص322 – المقريزي، السلوك، ج1 قسم1 ص187 – الدبس، ج6 ص221). وأقام الإفرنج في عكا حتى طليعة سنة 615 ه / 1218 م حيث أعدوا حملة موجهة إلى دمياط بقيادة جان دي بريين، حملتها سفن فريزية نزلت على بر الجيزة، شرقي النيل، أمام دمياط في صفر سنة 615 ه / 21 مايو 1218 م. وسقطت دمياط في أيدي الصليبيين في 27 شعبان سنة 616 ه / 5 نوفمبر سنة 1219م، وتحرج موقف السلطان الجديد الملك الكامل محمد بن العادل، فعرض على الصليبيين خلال ذلك أن يتخلوا عن دمياط ويرحلوا عن مصر في مقابل تنازله عن بيت المقدس وعسقلان وطبرية وصيدا وجبلة واللاذقية وجميع ما فتحه صلاح الدين من مدن الساحل ما عدا الكرك، فرفضوا هذا العرض السخي، وطلبوا ثلاثمائة ألف دينار عوضاً عن تخريب القدس ليعمروه بها، كما طالبوا بالكرك (ابن الأثير، ج12 ص329 – أبو الفداء، المختصر، ج6 ص26 – المقريزي، السلوك، ج1 قسم 1 ص207)، فاضطر المسلمون إلى مواصلة القتال، ولم يلبث الموقف أن تحول لصالح المسلمين، وتم الصلح على أساس أن يسلم الإفرنج دمياط في 7 رجب سنة 618 ه / 1221 م. وعندما بلغت الغرب المسيحي أنباء الخسائر التي مني بها الصليبيون في مصر، صمموا على إرسال إمدادات جديدة، إلا أنه لم يصل إلى الأراضي المقدسة أعداد كبيرة من حجاج الإفرنج قبل سنة 624 ه /  1227 م، وهم الطلائع الأولى للحملة الصليبية السادسة، الذين أقاموا في عكا ينتظرون قدوم الإمبراطور فردريك الثاني الذي تولى قيادة هذه الحملة (Frederick, p. 94 – Deschamps, p. 225 ). وكانت هذه الطلائع تتلهف على القيام بعمل هام يضمن تدعيم الدفاع عن الأراضي المقدسة وذلك عن طريق إقامة تحصينات، وبينما كانت العناصر الألمانية منهم تؤسس قلعة الشقيف كانت جماعة أخرى من فرسان الاسبتارية وصليبيي الإنجليز والفرنجة والإسبان يشيّدون حصناً على جزيرة صغيرة تقع عند مدخل مدينة صيدا التي استولوا عليها بعد أن كانت مناصفة (ابن الأثير، ج12 ص480 – القلقشندي، صبح الأعشى، ج4 ص178 )، وهذا الحصن هو المعروف اليوم بقلعة البحر، ويتكون من برجين رئيسيين يجمعهما سور. واعتبر المسلمون هذا التصرف خرقاً سافراً لشروط الهدنة التي تقضي بمناصفة صيدا. ويذكر مؤرخو الحركة الصليبية بأن البناء استغرق الفترة من يوم القديس مارتين حتى منتصف عيد الكاريم ( الصوم الكبير)، أي من 11 نوفمبر 1227 إلى 2 مارس 1228 م ( سعيد عاشور، ج2 ص 1003  Stevenson, p. 309 – Deschamps, p. 225 ). وفي استيلاء الإفرنج على صيدا يقول ابن الأثير: " وفي هذه السنة 625 ه خرج كثير من الإفرنج من بلادهم التي هي في الغرب من صقلية وما وراءها من البلاد إلى بلادهم التي بالشام: عكا وصور وغيرهما من ساحل الشام، فكثُر  جمعهم، وكان قد خرج قبل هؤلاء جمع آخر أيضاً إلا أنهم لم تمكنهم الحركة والشروع في أمر الحرب لأجل أن ملكهم الذي هو المقدم عليهم هو ملك الألمان ولقبه أنبرور قيل معناه ملك الأمراء، ولأن المعظم كان حياً، وكان شهماً مقداماً، فلما توفي المعظم كما ذكرناه وولي بعده ابنه، وملك دمشق، طمع الإفرنج، وظهروا من عكا وصور وبيروت إلى مدينة صيدا وكانت مناصفة بينهم وبين المسلمين، وسورها خراب، فعمروها واستولوا عليها، وإنما تم لهم ذلك، بسبب تخريب الحصون القريبة منها: تبنين وهونين وغيرهما" (ابن الأثير، ج12 ص477، 478). ويقول المقريزي في السلوك: " وفي سنة 625 ه شرع الإفرنج في عمارة صيداء – وكانت مناصفة بين المسلمين والإفرنج وسورها خراب – فعمروها وأزالوا من فيها من المسلمين" (أبو الفداء ج6 ص40 – السلوك، ج1 قسم 1 ص229).
   لم يسع السلطان الملك الكامل محمد بعد أن بلغته هذه الأخبار السيئة إلا أن يرحل من مصر ويصل إلى نابلس، ويكتب من هناك إلى الملك الأشرف موسى وابن أخيه الناصر داوود بن المعظم عيسى يبرر لهما سبب مجيئه بقوله: " إنني ما جئت إلى هذه البلاد إلا بسبب الإفرنج فإنهم لم يكن في البلاد من يمنعهم عما يريدونه وقد عمروا صيدا وبعض قيسارية ولم يمنعوا" (ابن الأثير، ج12 ص480). ثم وصل رجال الإمبراطور فريدريك الثاني إلى عكا في إبريل سنة 1228 م / 626 ه في حين تخلَّف الإمبراطور في قبرص بعض الوقت. ثم قدم إلى عكا في سبتمبر سنة 1228، وكان الكامل محمد قد صالح أخاه الملك الأشرف، واتحدا أمام الخطر المشترك، وترددت الرسل بينهما وبين فردريك عدة مرات، واستقر الأمر في ربيع الأول سنة 626 ه / 18 فبراير سنة 1229 م على أن تتقرر الهدنة بين الفريقين لمدة عشر سنوات، على أن يقوم الكامل بتسليم بيت المقدس وبيت لحم والناصرة وتبنين وصيدا بأكملها إلى الصليبيين، واشترط الكامل أن تبقى القدس كما هي عليه من الخراب وألا يجدد الإفرنج سورها (deschamps, p. 190 – Stevenson, p. 312 – Frederick, p. 95  - سعيد عاشور، ج2 ص1011)، ومنذ ذلك الحين آلت صيدا للمرة الثانية إلى الصليبيين.




الفترة الثانية من الاحتلال الصليبي لصيدا
(626 – 691 ه / 1228 – 1291 م)
   في الوقت الذي كانت الخلافات الداخلية بين أمراء البيت الأيوبي تمزق وحدة الصف الإسلامي خلال سني الهدنة، كان المعسكر الصليبي يمر هو الآخر بظروف مشابهة، فقد كان كل من القائدين جان دي إبلين صاحب بيروت وريتشارد فلانجيري ممثل فردريك الثاني ينافس الآخر في المطالبة بعرش مملكة بيت المقدس، وتمكن ريتشارد بعد استيلاء جان دي إبلين على قبرص من النزول ببيروت والاستيلاء عليها، وزحف إلى صيدا وصور وعكا فاحتلها. ثم دخل باليان بن أرناط صاحب صيدا طرفاً في هذا النزاع مؤيداً جان دي إبلين الذي قدم من قبرص بجيشه إلى الشام، ونزل جنوبي طرابلس في أواخر فبراير سنة 1231 م استرجع بيروت وصيدا (سعيد عاشور، ج2 ص1019).
   أما الصراع بين المسلمين فكان أعمق وأكثر خطورة، فقد توفي الملك الأشرف موسى بن العادل صاحب دمشق (كان الأشرف موسى قد استولى على دمشق في سنة 626 ه / 1225 م ، راجع البداية والنهاية، ج13 ص148) في 4 من المحرم 635 ه / 1237 م وتولى بعده الملك الصالح إسماعيل أمير بعلبك وبصرى الذي لم يلبث أن عزله الكامل محمد سلطان مصر واستولى على دمشق في آخر جمادى الأول 635 ه / 29 ديسمبر سنة 1238. ثم توفي السلطان الملك الكامل في 22 من رجب 635 / 9 مارس سنة 1238 وخلفه ولده العادل الصغير المعروف بالعادل الثاني على مصر ودمشق، ولم تتم توليته السلطنة، برضاء أخيه الملك الصالح نجم الدين أيوب الذي لم يلبث أن تخلص من أخيه، وجعل نفسه سلطاناً على مصر ودمشق. وفي هذه الأثناء تمكن الملك الصالح إسماعيل من العودة إلى دمشق، وأعلن سيادته عليها في سنة 638 ه / 1240 م، ولما أحس بأنه غير قادر بما فيه الكفاية على الدفاع عن دمشق ضد الصالح أيوب فقد تحالف مع الصليبيين بعد أن وعدهم في مقابل مساعدتهم له بالتخلي لهم عن بعض المواقع الهامة التي كانت في سلطانه مثل قلعة شقيف أرنون (ابن كثير، البداية والنهاية، ج13 ص155)، وقلعة صفد ومناصفة صيدا وطبرية وأعمالها وجبل عاملة وساتر بلاد الساحل ( المقريزي، السلوك، ج1 قسم2 ص303- C. Cahen, La Syrie du Nord, p. 648 – Deschamps, p.17 – وذكر ابن تغري بردى أن الصالح سلم الشقيف لصاحب صيداء الإفرنجي "النجوم ج6 ص338" وذلك في سنة 638 ه، ومعنى ذلك أن صيدا كان يتولاها صاحبها باليان الصيداوي، ويتعارض ذلك مع ما ذكرناه في المتن). وفي سنة 639 ه / 1241 م أقر السلطان الصالح التنازلات التي قام بها الصالح إسماعيل وعقد مع الإفرنج صلحاً أقر لهم فيه حقهم في امتلاك بيروت وصيدا والشقيف والجليل وطبرية وبيت لحم وناصرة وعسقلان. وفي سنة 1244 م/ 642 ه استعان الصالح نجم الدين بالخوارزمية، فساعدوه وتمكن بفضلهم من الاستيلاء على بيت المقدس، كما ساعدوه على استرجاع نفوذه على فلسطين ودمشق بعد أن هزموا الإفرنج وقوات الصالح إسماعيل عند غزة في سنة 642 ه / أكتوبر سنة 1244 (ابن كثير، ج13 ص164 وما يليها). وأدى سقوط القدس وهزيمة الإفرنج إلى توجيه الدعوة إلى إرسال حملة صليبية جديدة، وهي الحملة التي استجاب لها لويس التاسع ملك فرنسا، ووجهها إلى مصر حيث نزل في 646 ه على بر دمياط.
   ويشير ابن شداد في الأعلاق الخطيرة إلى أن صيدا كانت في يد الملك المغيث يوسف حتى سنة 630 ه، ويذكر ابن الفرات في تاريخه اسم أحد ولاته في هذه الفترة وهو علي بن دبيس بن يوسف الحميدي ت676 ه (ابن الفرات، تاريخ ابن الفرات، تحقيق الدكتور قسطنطين زريق، مجلد 7 بيروت 1942 ص107)، ثم آلت صيدا بعد المغيث إلى الأشرف موسى بن العادل، وظلت تابعة له حتى وفاته، ثم قدمها الصالح إسماعيل للإفرنج فعمروها وحصنوها (الأعلاق الخطيرة، ص100). ونستنتج مما ذكره ابن شداد في الأعلاق الخطيرة أن الاتفاقية التي أبرمها الكامل محمد وفردريك الثاني لم تطبق بالنسبة لصيدا، وأن صيدا ظلت تابعة للمسلمين في الوقت الذي كان يحكمها حاكم صليبي هو باليان بن أرناط، ثم أصبحت بمقتضى اتفاقية الصالح إسماعيل مناصفة بين الصليبيين والمسلمين، وبذلك نكون قد وفقنا بين النصوص العربية المتضاربة فيما يختص بمصير صيدا في تلك الفترة التاريخية.
   ثم انتزع المسلمون صيدا من الإفرنج في سنة 647 ه / 1250 م، فالمقريزي يذكر أن أهل دمشق عندما بلغهم نبأ استيلاء لويس التاسع على دمياط، استولوا على صيدا من الإفرنج بعد حصار وقتال، وتم ذلك في 25 ربيع الآخر سنة 647 ه / 1250 م (المقريزي، السلوك، ج1 قسم2 ص337)، وتولاها من قبل الملك الناصر صلاح الدين صاحب حلب ودمشق سعد الدين بن نزار الذي نجح في الاستيلاء على شقيف تيرون عنوة من الإفرنج (الأعلاق الخطيرة، قسم 2 ص159-  Stevenson, p. 328)، ولكن سيطرة المسلمين على صيدا لم تلبث أن تفككت، فإن ابن شداد يذكر في موضع آخر أن الناصر صلاح الدين صاحب حلب أخذها من الصليبيين عنوة في سنة 651 ه / 1253م ثم صالحهم على أن تكون مناصفة (نفس المصدر، ص100). والحقيقة أن هذه الفترة تعتبر من أكثر فترات تاريخ صيدا الإسلامية اضطراباً، ويبدو أنه تعاقب على حكم صيدا حكام مسلمون وصليبيون، لسهولة الاستيلاء عليها بسبب تهدم أسوارها، ولم يتم استقرارها في أيدي الصليبيين إلا بعد أن أسس لويس التاسع قلعة البر والأسوار على النحو الذي نشير إليه فيما يلي.
   إنتهت حملة لويس التاسع على دمياط بالفشل، ووقع الملك الفرنسي أسيراً، ولما افتدى نفسه رحل إلى عكا في 7 مايو سنة 1250 / صفر 648 ه، وقضى في سواحل الشام الجنوبية ما يقرب من أربع سنوات، ينتظر وصول الإمدادات، وفي فترة الانتظار قام بتحصين عكا وصيدا وقيسارية ويافا وكيفا، ففي يونيو سنة 1253 كان يتولى صيدا وقتئذ جوليان الصيداوي بن باليان، فعهد لويس التاسع إلى سيمون دي مونتسيليار ببناء القلعة البرية وسور المدينة وإنهاض صيدا من خرابها، ولم يكد سيمون يبدأ في أعمال البناء حتى تعرضت صيدا لهجوم خاطف شنه المسلمون، ففر سيمون دي مونتسيليار وجماعة قليلة من النصارى إلى قلعة البحر وتحصنوا فيها، ولكنها كانت من الصغر بحيث لم تستطع أن تضم جميع سكان المدينة، ولذلك سقط قائد الحامية الصليبية ونحو ألفين منهم صرعى بسيوف المسلمين، وحمل المسلمون غنائم هائلة وعادوا بها إلى دمشق (الدبس، ج6 ص274 – حسن حبشي، الشرق العربي بين شقي الرحى، القاهرة، 1949 ص128Deschamps, p.165,266-Lammens,t.I,p.230-Grousset,t.III,p.505,507 - Wolfgan Muller, p.26 ). وتفصيل الواقعة حسبما رواه جوانفيل أنه عندما علمت جموع المسلمين المرابطة أمام عكا بأن الملك الموجود في يافا ويعمل على تحصين أحد أرباضها يهدف أيضاً إلى تحصين مدينة صيدا حيث توجد قوة عسكرية ضعيفة، ساروا لقصدها – أي لقصد صيدا – فلما سمع لورد سيمون دي مونتسيليار رئيس رماة الملك وكبير رجاله في صيدا ذلك، ارتد إلى قلعة صيدا الشديدة المناعة، والمحاطة بالبحر من جميع نواحيها، وكان ارتداده هذا من وحي بصيرته النافذة من جراء عدم وجود قوة كافية لديه تمكنه من مقاومة المسلمين الغزاة، وصحب معه داخل القلعة أكبر عدد مستطاع من الناس، ولكنهم كانوا قلة نظراً لصغر مساحة الحصن، ثم "هاجم المسلمون المدينة دون أن يلقوا أية مقاومة لأنها لم تكن مسورة من جميع نواحيها، وقتلوا أكثر من ألف رجل من جماعتنا، وانطلقوا بما غنموه إلى دمشق، فلما سمع الملك هذه الأنباء اشتد غضبه، لأن المسلمين خربوا كل ما أقامه في صيدا، ولكن هل يجدي غضبه في إصلاح ما جرى؟. استغل بارونات البلد غضب الملك لصالحهم، إذ كان قد جمع عزمه من قبل على الذهاب لتحصين رابية واقعة على الطريق الواصل بين يافا وبيت المقدس، حيث كان يقوم على هذه الرابية حصن قديم في أيام المكابيين. لم نكن من رأي بارونات البلاد إعادة بناء هذه القلعة لأنها كانت على مسافة خمس فراسخ من البحر، وهذا هو السبب الذي من أجله لم يكن في الاستطاعة إرسال الذخائر إليها بحراً دون وقوعها في أيدي المسلمين الذين كانوا أقوى منا. فلما جاءت الأنباء إلى المعسكر بتخريب ضاحية صيدا تحدث بارونات هذه البلاد إلى الملك مبينين له أن إعادة تحصين صيدا التي ضربها المسلمون أجدى وأعظم قيمة من بنائه قلعة جديدة. فوافقهم الملك على رأيهم" (جوانفيل، القديس لويس: حياته وحملاته على مصر والشام، ترجمة الدكتور حسن حبشي، القاهرة 1968، ص242، 243). ويضيف جوانفيل قائلاً: " عندما عدنا إلى صيدا من بانياس، وجدنا الملك (الذي كان موجوداً في صيدا) قد أمر بأن تدفن في الحال جثث النصارى الذين قتلهم المسلمون، كما اشترك هو بنفسه في حمل الجثث العفنة دون أن يسد منخاريه كما يفعل الآخرون. كذلك أمر بجلب العمال من جميع النواحي، وأخذ بنفسه بتقوية المدينة بالأسوار العالية، والأبراج الضخمة حتى إذا بلغنا المعسكر وجدناه قد عاين بنفسه الأماكن التي نعسكر فيها" (نفس المصدر، ص254). وهكذا أتم الملك تحصين مدينة صيدا من كل نواحيها تقريباً في سنة 1254 م، وحصنها بالأسوار والأبراج وأقام لها الخنادق المنيعة من الداخل والخارج (المصدر نفسه، ص267)، واستغرقت هذه الأعمال الإنشائية في صيدا نحو ثمانية شهور حتى صيام 1254 م، وقبل الانتهاء منها قرر لويس التاسع العودة إلى فرنسا (Stevenson, p. 331).
أسبابها ونتائجها:
   يعتبر جوليان الصيداوي آخر بارونات صيدا والشقيف من سلالة أيوستاش جارنييه الذي كان قد أقطعه بلدوين الأول ملك بيت المقدس صيدا في سنة 1110 م، فأبوه هو جيل ت1247 م ابن باليان الأول ت1239م وجده أرناط الصيداوي المشهور. وكان جوليان هذا صهراً لهيثوم الأول ملك أرمينيا إذ تزوج في سنة 1252 م / 650 ه من الأميرة أيوفيمي بنت ملك أرمينيا، بينما تزوج بوهمند السادس صاحب أنطاكية 1251 – 1275 م بنتاص ثانية لهذا الملك (Grousset, t. III, p. 595). ومن المعروف أنه ظهر على مسرح الأحداث في هذه الفترة قوة جديدة خطيرة تحالفت مع قوى الصليبيين ضد المسلمين، هي قوة المغول الذين أدت انتصاراتهم المتوالية تحت قيادة هولاكو ضد المسلمين وتقدمهم السريع في قلب العالم الإسلامي إلى قيام جبهة صليبية مغولية متحدة تضم المغول والأرمن والإفرنج تستهدف غاية مشتركة هي سحق القوى الإسلامية في مصر والشام.
   غير أن بارونات عكا لم تكن لهم نفس آراء بوهمند السادس الذي ارتبط مع صهره ارتباطاً وثيقاً وانساق وراءه في الحملة المغولية بقيادة هولاكو خان ثم كيتبغا الذي تسلم القيادة المغولية في الشام بعد قفول هولاكو إلى إيران، فقد كان بارونات الجنوب مترددين بين محالفة المغول أو التزام موقف حيادي أو التزام الجانب الإسلامي، وفضل جوليان سيد صيدا والشقيف وحنا دي إيبلين أمير بيروت بالإضافة إلى أمير جبيل وفرسان الداوية وسكان عكا في نهاية الأمر محالفة المسلمين (جون لامونت، الحروب الصليبية والجهاد، مقال في "دراسات إسلامية" ترجمة الأستاذ أنيس فريحة وآخرين، بيروت 1960 ص136). ويرجع السبب الرئيسي في انحيازهم إلى جانب المسلمين إلى حادث كان له أبعد الأثر في تغيير نظرتهم نحو المغول واعتبارهم برابرة بالقياس إلى المسلمين المتحضرين (فؤاد عبد المعطي الصياد، المغول في التاريخ، ج1، بيروت 1970 ص299). وتفصيل ذلك أن جوليان الصيداوي الذي اتصف بسوء الخلق وسرعة الغضب والتهور الشديدن استغل فرصة القتال الدائر بين المغول والمسلمين لكسب مغانم عن طريق الإغارة من الشقيف على أراضي البقاع المشهورة بخصبها (رنسيمان، ج3 ص529 – الباز العريني، المغول، بيروت، 1967 ص250). ويذكر المؤوخون أنه عبر الليطاني مع فرقة من عسكره وأغار على الأراضي الخصبة في نواحي مرج عيون، وكانت تضم قرى إسلامية خاضعة للمغول، فغدر الإفرنج بأهالي هذه القرى، وكان من الطبيعي أن يثور كيتبغا لهذا الاعتداء على أراض تابعة له أو تخضع لنفوذه، ولم يغفر لجوليان تعديه عليه، فأرسل عدداً من عسكره بقيادة ابن أخته لرد المعتدين وإنزال العقاب بهم حتى لا يقدموا مرة ثانية على الإغارة على تلك المنطقة، ويلقنهم درساً لا ينسوه ليحترموا تقاليد المغول، فاضطر جوليان إلى طلب مساندة جيرانه الإفرنج، واستطاع أن يوقع بالقائد المغولي في كمين ويجهز عليه(Deschamps. P. 194 – Frederick, p. 97 -الباز العريني، المرجع السابق، ص250). وأثار هذا العدوان الإجرامي من جانب الإفرنج الذين كان كيتبغا يعتبرهم حتى هذه اللحظة حلفاء للمغول ثائرة كيتبغا وقواته، ونسي المغول في غضبهم التحالف القائم بينهم وبين الإفرنج، وأصبح لا هم لكيتبغا سوى الانتقام من صاحب صيدا، ودفعته شهوة الانتقام إلى مهاجمة هذه المدينة مركز العدوان، فحشد قوة كبيرة من خيالة المغول وسار على مقدمتها قاصداً صيدا ثم هاجمها بجحافله، ودافع جوليان عن باب صيدا الرئيسي "باب عكا" الملاصق لقلعة البر، حتى يتيح للأهالي الفرصة للتحصن بداخلها (Deschamps, p. 194,226). واضطر جوليان في النهاية إلى التحصن بدوره بداخل القلعة المذكورة بعد أن قتل من تحته فرسان، واتفق في هذه الآونة أن وصلت إلى ميناء صيدا سفينتان جنويتان قدمتا من صور يقودهما فرنسشينو جريمالدي فأسهمت في نقل فريق من الأهالي ممن لم تتسع القلعة البرية لإيوائهم إلى قلعة البحر التي لم يكن في استطاعة خيالة كيتبغا الوصول إليها، واقتحم المغول أسوار المدينة، وتدفقوا عليها، ودمروا الأسوار وسووها بالأرض، كما خربوا عمران المدينة، وذبحوا كل من وجدوه أمامهم، ثم إنهم نهبوا المدينة ولم ينسحبوا منها إلا بعد أن أضرموا النيران في مساكنها ودمروا أسوارها وحولوا المدينة التعسة إلى كومة خرائب وتلال أنقاض (Grousset, t. III, p. 596-رنسيمان، ج3 ص530  Frederick, p. 97).
   ومرت الموجة المغولية المدمرة وخلفت وراءها مدينة صيدا ركاماً، وعجز جوليان عن تعمير ما تخرب منها لقلة أمواله، فاضطر إلى بيع بارونيته لفرسان الداوية في سنة 1261 م (Grousset, t. III, p. 639, 645). وكان من نتائج وقعة المغول في صيدا أيضاً أن بارونات الإفرنج الحانقين على كيتبغا لم يستطيعوا أن يخفوا عداءهم وكراهيتهم للمغول، ووقفوا من المماليك في مصر موقفاً مؤيداً عندما عزم هؤلاء على خوض المعركة الفاصلة ضد المغول، ولم يترددوا في الإفصاح عن استعدادهم لبذل المساعدة والعون لهم، وإمداد المظفر قطز سلطان مصر بالأجناد، ويذكر مؤرخو العرب أن الإفرنج خرجوا إليه بتقادم، وأرادوا أن يسيروا معه نجدة، ولكن قطز أنف من ذلك حتى لا يكون الإفرنج قد بذلوا له فضلاً ينسيه بعد ذلك رسالته في تطهير الأراضي الإسلامية منهم وتحريرها من احتلالهم، ولم يسعه إلا أن يشكرهم على عرضهم له وأخلع على رؤسائهم، ثم استحلفهم أن يكونوا لا له ولا عليه ( المقريزي، السلوك، ج1 قسم2 ص430 – الباز العريني، المغول، ص259 – مختار العبادي، قيام دولة المماليك الأولى في مصر والشام، بيروت، 1969،ص162). ويعتقد الأستاذ الدكتور مختار العبادي أن أحوال الصليبيين في الشام لم تكن تسمح لهم بتقديم أي عون سواء للمماليك أم للمغول، إذ كانت أحوال مسيحيي الشام جميعاً لا سيما في عكا قد بلغت وقتئذ أقصى درجات السوء منذ أن قام النزاع بين الجنوية والبنادقة في سنة 1256، وتطور بعد ذلك إلى حرب أهلية جذبت إليها جميع العناصر المسيحية، فانضم البيازنة وفيليب دي مونتفورت أمير صور إلى الجنوية، في حين انضم بوهمند السادس أمير أنطاكية إلى البنادقة. كذلك انضم جماعات الفرسان الاسبتارية إلى الجنوية بينما انضم الداوية والتيواتون ومنظمة القديس توماس أكون ولازارس إلى البنادقة. وعلى الرغم من التوصل في 9 أكتوبر سنة 1258 إلى وضع حد لهذا الصراع بمعاهدة أبرمت بين الطرفين إلا أن هذه الحرب تركت الجبهة الداخلية للصليبيين في غاية الإعياء والتمزق (مختار العبادي، المرجع السابق، ص162).
   ومع ذلك فإن موقف بارونات عكا المؤيد للماليك كان من العوامل الرئيسية في تصديع الحلف المغولي الصليبي وانهياره، كما كان له أعظم الأثر في انتصار القوى الإسلامية في عين جالوت. ويتهم جروسيه بارونات عكا وصيدا بالغباء، فيعلق على تأييدهم للماليك بقوله: " كانت مصلحة المسيحية ترتكز على تضامن قوى الصليبيين ومغول إيران، وقد أدرك المماليك هذه الحقيقة، ولكن بارونية عكا لم تفهمها، إذ كان المغول في اعتبارهم هم العدو الأول لهم منذ أن نهبوا صيدا" (Grousset, t. III, p. 601). وفي موضع آخر يقول: "اشترك هيثوم ملك أرمينيا وصهره بوهمند السادس أمير أنطاكية مع جيش هولاكو في غزو بلاد سورية الإسلامية، ولو أن بارونات صيدا وعكا الأغبياء قلدوهما في ذلك بدلاً من تأييدهم للمماليك وانحيازهم لهم ضد المغول لكانت قوى المغول يقيناً قد اكتسحت أمامها النفوذ الإسلامي وأزالته من سواحل الشام" (ibid. p. 631). وينْعت ديشام تصرّف جوليان بالجنون ويرمي الإفرنج في جنوبي الشام بعدم الفهم فيقول: "وهكذا كانت القطيعة بين كيتبغا والإفرنج في بلاد الشام الجنوبية الذين لم يدركوا الدعم الهائل الذي يمكن أن يترتب على التحالف المغولي الصليبي ضد القوى الإسلامية في حين أدركه صاحب أنطاكية وملك أرمينيا. ضد القوى الإسلامية في حين أدركه صاحب أنطاكية وملك أرمينيا. وتسبب هذا الجنون من جانب جوليان في إحداث نتائج خطيرة، فإن بارونات الإفرنج الساخطين على كيتبغا حققوا آمال المماليك في القضاء على الاحتلال المغولي" (Deschamps,p. 195).
   تعرضت صيدا في العصرين الأيوبي ثم الصليبي الثاني لاضطرابات وهزات عنيفة مصدرها كثرة ما أصيب به عمرانها من تخريب وتدمير بسبب الغارات التي كان يشنها الصليبيون عليها  في العصر الأيوبي أو المسلمون في عهدها الصليبي الثاني أو المغول في الفترة الأخيرة من هذا العهد. صحيح أن مدينة صيدا كانت قاعدة بحرية هامة يمكن الإفادة منها في تصريف منتجات البلاد في الخارج (كانت صيدا مرسى هاماً في عهد تبعيتها للصليبيين، ففي منتصف يوليو سنة 1171 م نزل الملك أملريك في مينائها بعد اتفاقه مع البيزنطيين في عهد الإمبراطور مانويل كومينين “Grousset, t. II, p. 579” وفي أول أكتوبر سنة 1176 نزل بها المركيز وليم دي منتفرات ذو السيف الطويل الذي تزوج سيبلا أخت بلدوين الرابع “ibid. p. 634”). ولكن حالة الاضطراب السياسي، الناتج من تناوب الحكم الإسلامي والصليبي فيها، بالإضافة إلى تدمير نواحيها المزروعة وتخريب عمرانها، كل ذلك ساعد على الإخلال باقتصاد هذه المدينة العريقة كما أدى إلى تقلص عمرانها وانكماش رقعتها، الأمر الذي أدى إلى نزولها من عداد المدن الكبرى إلى مصاف المدن الساحلية الصغرى. وعلى الرغم من اضطراب الأحوال السياسية وما ترتب على ذلك من اضمحلال المدينة اقتصادياً وعمرانياً، فإن صيدا ظلت تحتفظ في هذا العهد الصليبي بشهرتها في زراعة قصب السكر، وكانت لذلك بطبيعة الحال من بين المدن الرئيسية في إنتاج السكر (نقولا زيادة، مدن عربية، بيروت 1947، ص165) كما احتفظت بقسط من شهرتها القديمة في صناعة الزجاج والخزف ( فيليب حتي، لبنان في التاريخ، ص414، 415).
   وكانت صيدا في هذا العصر تحف بسهلها المروج التي تكسوها الأزهار والنرجس، وقد وصف ابن الساعاتي الشاعر هذه المروج في وقت فر فيه أحد أسرى الصليبيين من صيدا، فلحقته خيل الوالي الأيوبي وأدركته، يقول ابن الساعاتي:
          لله صيداء من بـلاد         لم تبق عندي همـاً دفينا
          نرجسها حلية الفيافي        قد طبق السهل والحزونا
          وكيف ينجو بها هزيم        وأرضها تنبت العيونـا
(ديوان ابن الساعاتي"بهاء الدين أبو الحسن علي بن رستم الخراساني"، تحقيق أنيس المقدسي، بيروت، 1938، الجزء الأول)
   ومن حيث البناء نلاحظ أن اضطراب الأحوال السياسية وتناوب السيطرة الإسلامية والصليبية عليها، كانت من العوامل التي دعت إلى توجيه المزيد من الاهتمام بالمنشآت الحربية، ولكن معظم المنشآت الأيوبية والصليبية اندثرت وتخربت إما بفعل الزلازل العنيفة التي دمرت بنيان المدن الساحلية خاصة في عامي 552 ه / 1157 م ، 598 ه / 1202 م (يوسف، مزهر، ج1 ص242)، أو بهدف عرقلة الصليبيين ومنعهم من الاستيلاء عليها، أو نتيجة أعمال انتقامية. على أن ما تبقى من هذه المنشآت في يومنا هذا، ومعظمه من العمائر الحربية – يشير إلى طبيعة الصراع العنيف الذي احتدمت ناره منذ أن وطئت أقدام الصليبيين في أراضي صيدا. وليس من الصواب نسبة كل هذه الآثار الحربية في صيدا إلى الصليبيين، كما هو سائد في الوقت الحاضر، فإن أسوار المدينة وقلعتيها دمرت ثم أعيد بناؤها عدة مرات عبر التاريخ الوسيط، لاسيما ما يتعلق بالأسوار وببعض أجزاء من قلعة البحر، أما قلعة البر فهي بناء صليبي واضح المعالم، لاسيما البرج الضخم الذي يتوج التل، وينبت منه السوران الرئيسيان المؤديان إلى البحر. ويشير جلبرت دي لا نوي أن السور الذي كان يحمي صيدا من الشرق كان يتقدمه سور أماي وخندق يتجه شرقاً، وينتهي السور ببرج ضخم مستدير يقع على ساحل البحر شمالي الجسر الذي يربط قلعة البحر بالبر (Rey, Les colonies franques de Syrie aux XIIe et XIIIe siecles, Paris, 1883, p. 520).
   وفيما يلي دراسة موجزة لأثرين رئيسيين من العهد الصليبي هما قلعتا البر والبحر بالإضافة إلى تعريف بالكنيسة الصليبية التي يشغلها اليوم جامع صيدا الكبير. أما فيما يختص بالقلعتين، فمن المعروف أن الصليبيين اهتموا اهتماماً خاصاً بالتحصينات الساحلية لتأمين العمليات البحرية، وأنهم استخدموا فيها مخلفات الأسوار والقلاع الفينيقية والرومانية والإسلامية، بل إن بعض التحصينات التي أقامها الصليبيون في صيدا كانت ترميماً للقلاع والحصون القديمة التي كانت تتميز بمواقعها الاستراتيجية الهامة، وهو أمر سبق أن أشرنا إليه من قبل عندما تعرضنا لوصف ناصر خسرو لقلعة صيدا في العصر الفاطمي. ونلاحظ أن الصليبيين تأثروا في بنائهم لقلعتي صيدا، لاسيما قلعة البحر، بالصورة المتأصلة للعمارة الشرقية البيزنطية والإسلامية (عبد الرحمن زكي، القلاع في الحروب الصليبي، ص 50)، فاستخدموا أبدان أعمدة قديمة من المعتقد أنها استحضرت من معبد فينيقي قديم كان مخصصاً لملقارت (Bruce Conde, See Lebanon, Beirut, 1960, p. 237) ثم غرسوها في عرض بناء الجدران وأدمجوها بين صفوف البناء بحيث لا يظهر من الخارج سوى رؤوسها، بهدف اتخاذها مساند لتدعيم هذه الجدران وهي فكرة معمارية كانت شائعة في العمارة الإسلامية (Robin Fedden, & John Thomson, Crusader Castles, London, 1957, p. 50)، ولها أمثلة سابقة في بوابات القاهرة من العصر الفاطمي، وفي قلعة قايتباي بالإسكندرية من العصر المملوكي الثاني وفي قلاع المماليك بطرابلس الشام (السيد عبد العزيز سالم، طرابلس الشام، ص445)، كما اتخذوا نظام الشرفات الحجرية البارزة على واجهات القلاع والبوابات تمكيناً للدفاع عن المداخل والبوابات وهي أكثر أجزاء القلاع تعرضاً للهجوم. ومن المعروف أن الشرفات البارزة كانت من الموضوعات الشائعة في العمارة البيزنطية، واقتبسها العرب في تحصيناتهم وبأعلى بوابات أسوارهم، فظهرت في بوابات القاهرة من العصر الفاطمي، كما ظهرت في قلعة الجبل التي أسسها صلاح الدين بن أيوب في القاهرة، وفي قلعة قايتباي بالإسكندرية. ويشير جوانفيل إلى أن مهندس لويس التاسع أقام أمام الأسوار الرئيسية لصيدا أسواراً أمامية، وهو نظام كان شائعاً أيضاً في العمارة الحربية عند البيزنطيين، ثم طبقه العرب في تحصيناتهم وساد استخدام الأسوار الأمامية في أسوار المغرب والأندلس بوجه خاص(السيد عبد العزيز سالم، المساجد والقصور في الأندلس، القاهرة 1958، ص134)، وعرفت هذه الأسوار الأمامية في الأندلس بالحزام البراني أحياناً وبالبربخانة أحياناً أخرى. وكان يفصل الأسوار الرئيسية عن الأمامية دروب أو فصلان يستخدمها المدافعون كخط دفاعي أمامي، كما كان يتقدم الأسوار الأمامية خندق يدور بها ويساعد على عرقلة تقدم العدو نحو سور المدينة الرئيسي.
قلعـة البـحر:
   أسسها جماعة من الصليبيين الفرنجة والإنجليز والإسبان، على صخرة ناتئة كبيرة منعزلة في البحر أشبه بجزيرة صغيرة، تبعد عن الساحل بنحو ثمانين متراً، وقد استغرق بناؤها ما يقرب من أربعة أشهر أي في الفترة ما بين 11 نوفمبر سنة 1227، و2 مارس سنة 1228 م (Deschamps, p. 17). وأول من قام بدراسة هذه القلعة الصليبية المؤرخ والعالم الأثري ري (Rey) إذ وضع لها تخطيطاً هاماً في سنة 1871 م، ثم تبعه في هذا العمل الكبير الأستاذ بيير كوبل، وأخيراً قام الأستاذ ديشام (Deshamps) بدراستها دراسة علمية منظمة معتمداً على البحث الذي قدمه ري اعتماداً كلياً. وتتكون قلعة البحر أساسياً من برجين: الأول برج ضخم (أ) يقع في الجهة الغربية أو الركن الغربي من القلعة، وهو برج إسلامي واضح المعالم أعتقد أنه من العصر المملوكي يتميز بأن واجهته الجنوبية المطلة على مدينة صيدا مدورة، ويتصل به من الجهة الشمالية برج آخر مربع الشكل (ج) فتحت في جداره الشمالي المطل على البحر منافذ للسهام مخروطية الشكل. والثاني برج متوسط الحجم (ب) كان يصل بينه وبين البرج الرئيسي (أ) سور لم يتوصل ري إلى العثور على آثاره.
   وكان يصل بين القلعة والساحل جسر قائم على ركائز ضخمة يبدأ من مدخل القلعة وينتهي على مسافة قدرها نحو 35 متراً عند الركيزة (د) لم يتبق من ركائزه الأصلية سوى الركيزة الأولى (ه) التي ينتهي عندها الجسر. ونستنتج من ذلك أن الإفرنج لم يمدوا جسرهم حتى البر وإنما مدوه حتى الركيزة (د)، وكانت الركائز الأصلية كما تبدو ممثلة في الركيزة الباقية من العصر الصليبي (ه) مزودة برؤوس بارزة مدببة من الجهة الشرقية. ويعتقد ري أن القسم الممتد من الركيزة (د) حتى البر ويبلغ طوله 42 متراً تقريباً حديث البناء وأنه كان في الأصل مجرد قنطرة من الخشب من السهل على حامية القلعة تدميرها في أوقات الخطر، حتى لا يتمكن المهاجمون من الوصول إلى أسوار القلعة. ومن المعروف أن الأمير علم الدين سنجر الشجاعي عندما أراد الاستيلاء على القلعة في سنة 690 ه، أقام جسراً من البر يصل بين الساحل ومدخل القلعة التي كانت منعزلة وقتئذ عن الساحل.
   ويعتقد الأستاذ ديشام أن القسم الأدنى من البرج الرئيسي (أ) صليبي الإنشاء، وأن القسم الأعلى منه إسلامي(Deschamps, pp. 229 - 231). وأعتقد شخصياً أن هذا البرج إسلامي البناء كله، وأنه أقيم في العصر المملوكي الأول المعروف بعصر دولة المماليك البحرية، وأن بناءه أضيف إلى القلعة بدليل أن الجدار الشمالي لهذا البرج يتعامد ويقطع بائكة قديمة ويبتر عقدها الجنوبي بتراً تاماً مما يدل على أنه مستحدث، وسنعود إلى دراسته عندما نتعرض لدراسة الآثار الباقية من العصر المملوكي. أما البرج المتوسط الحجم (ب) فصليبي الطابع وهو برج مستطيل الشكل طوله 21 متراً وعرضه 17 متراً، صفّت على واجهته الخارجية أربعة صفوف من أبدان أعمدة جرانيتية أدمجت في سمك البناء، وقد أشرنا من قبل إلى هذه الظاهرة وذكرنا أنها من الخصائص البارزة في العمارة الحربية الإسلامية وشاعت في المنشآت الحربية التي أقامها بناة مسلمون في عصر الحروب الصليبية، واقتبسها الصليبيون في كثير من منشآتهم الحربية في عسقلان وقيسارية وصور وجبلة وجبيل واللاذقية. ويتقدم البرج (ب) شمالاً بناءٌ (ز) يمكن الدخول إليه عن طريق خوخة لها ممر مزود بمشط. ويتقدم البناء (ز) بناء آخر (ح)، وقد عثر الأستاذ كوبل بمحاذاة الواجهة الشمالية كلها للجزيرة ما بين البرج (ج) والبناء (ح) على آثار قاعة (ط) يبلغ طولها نحو خمسين متراً، وكانت تنقسم فيما يظهر إلى ست أساطين، وكان يدعم جدارها الذي يغلق الجانب الجنوبي منها 5 أكتاف أو دعائم قائمة على قاعدة ارتفاعها 1.20 متراً. وعثر في هذا المكان على مسند (كابولي) يزدان بصورة نصفية لشخص. كذلك نشر الأستاذ كميل أنلار في سنة 1926 صوراً منقولة لمسند وتيجان أعمدة تزدان بتوريقات عثر عليها في خرائب قلعة البحر، والمسند المذكور محفوظ اليوم بمتحف بيروت، وهو عمل فرنسي الطابع يرجع تاريخه إلى عهد الملك لويس التاسع، وودود هذا المسند في قلعة البحر دليل على أن القاعة المذكورة أضيفت إلى القلعة في فترة الأعمال الإنشائية التي قام بها لويس التاسع  أثناء إقامته بصيدا (ibid. P. 232).
قلعـة الـبر:
   تعرف هذه القلعة أيضاً بقلعة لويس التاسع أو القديس لويس (ibid. p. 227)، وقلعة صيدا الفوقا وقلعة المعزة (أحمد عارف الزين، تاريخ صيداء، 1331 ه ص103)، بناها لويس التاسع أثناء فترة إقامته بعكا وصيدا فيما بين 13 مايو سنة 1250 إلى 24 أبريل سنة 1254. ولا تحتفظ هذه القلعة اليوم بعناصرها الصليبية القديمة بسبب تدمير القسم الأعظم منها وما سببته الترميمات العديدة وأعمال الإصلاح والتجديد التي طرأت عليها منذ أن قام الأمير علم الدين سنجر الشجاعي بتدميرها هي والقلعة البحرية في سنة 1291 م (الدويهي، ص151). زد على ذلك أن القلعة البرية بنيت بناء سريعاً بطريقة غير متقنة على الإطلاق، واستخدمت في بنائها قطع من الحجارة الصغيرة غير المنتظمة، مما ساعد على سرعة تخربها. وينسب الأستاذ ديشام أعمال الترميم فيها إلى الأمير فخر الدين المعني الثاني في القرن 17 م، وبينما يعتقد كل من ري وكوبل أن أسس البناء من بقايا القلعة الصليبية، فإن الأستاذ ديشام يعتقد بدوره أن القلعة أقيمت في موضع جبانة صيدون القديمة.
   وتخطيط سور القلعة البرية يتخذ شكل قوس نصف دائري يطل قطره إلى جهة المدينة في حين يتجه وجه القوس الدائري نحو الجنوب. وتبرز الواجهة المدورة للبرج الأعظم الذي يؤلف القلعة نفسها في وسط القوس الدائري لسياجها، والبرج المذكور بناء ضخم يبلغ طوله 17 متراً، وعرضه 14 متراً، وسمك جدرانه 1.50 متراً، ويتجاوز في بروزه الواجهة بنحو مترين من بناء أصم لا تتخلله منافذ للسهام أو أي نوع من الفتحات، ويحمي الجدارين الشمالي والشرقي أربع منافذ للسهام. وتتداخل في بناء القلعة الكثير من العناصر المعمارية الإسلامية (Deschamps, p. 229) .
جامع صيدا الكبير:
   أذن بارونات صيدا في سنة 1260 لمنظمة فرسان القديس حنا الاسبتارية ببيت المقدس أن يقيموا بيتاً للاسبتارية على الصخور المطلة على الجانب الغربي من ساحل صيدا، وكان بيت الاسبتارية المذكور في حد ذاته أشبه بقلعة حربية لها كنيستها الخاصة(Bruce Conde, p. 239). والجامع الإسلامي بصيدا يشغل قسماً من الكنيسة المستطيلة التي بناها الاسبتارية في القرن الثالث عشر الميلادي (فيليب حتي، لبنان في التاريخ، ص382)، ويدعم جدران الجامع من الخارج ركائز ضخمة هي نفس الركائز القديمة للكنيسة الاسبتارية، وقد طغى البحر على هذا البناء في سنة 1820، ثم أعيد بناؤه بعد ذلك (عارف الزين، تاريخ صيداء، ص108).



غارات القبارصة والجنوية على صيدا
 وأثره في اهتمام المماليك بإعادة تحصينها
   لم يؤد نجاح الأشرف خليل في طرد الإفرنج نهائياً من أراضي الشام إلى توقف الصراع الحربي بين المسلمين والصليبيين، بل كان ذلك الحدث من العوامل التي أججت نيران هذا الصراع وقوت من حدته، فإن قوى الصليبيين بارتكازها في قبرص ورودس وأرواد باتت تشكل خطراً متواصلاً على السواحل المصرية والشامية. وكانت الاعتداءات الصليبية على سواحل الشام من العوامل الرئيسية التي دفعت نواب السلطنة في الشام إلى تدمير أسوار المدن الساحلية وتخريبها حتى لا يتمكن المعتدون من احتلالها والتحصن فيها، واتخاذها مراكز لتوجيه عدوانهم على بلاد الشام بغية تأسيس مستعمرات صليبية جديدة. وعلى الرغم من نجاح سيف الدين كهرداش الزراق المنصوري في استرداد جزيرة أرواد في سنة 702 ه / 1302 م (النويري، نهاية الأرب في فنون الأدب، نسخة مصورة من المخطوط محفوظة بدار الكتب المصرية برقم 549 معارف عامة ج 30 ص4 – ابن أيبك الدواداري، الدر الفاخر في سيرة الملك الناصر، ج9 تحقيق هانز روبرت رويمر، القاهرة 1960 ص40 – أبو الفداء، المختصر، ج7 ص57 – ابن تغري بردى، ج8 ص156) بعد أن فتحها عنوة، فقد ظل فرسان الاسبتارية الذين انتقلوا إلى جزيرة قبرص بعد قيام الأشرف خليل بتحرير الأراضي الشامية من المستعمرات الإفرنجية يهددون السواحل الشامية تهديداً مباشراً بغاراتهم المتواصلة منذ سنة 702 ه التي سقطت فيها أرواد في أيدي المسلمين، وساعد موقع قبرص الاستراتيجي الهام في قبالة الساحل السوري على تزايد الغارات الصليبية على موانئ لبنان بوجه خاص (طرابلس الشام، ص339). وإذا كانت طرابلس الشام هي أول مدن الساحل الشامي التي تعرضت لغارات الإفرنج في شعبان سنة 698 ه / 1298 م فإن مدينة صيدا هي الأخرى كانت هدفاً رئيسياً للغارات البحرية القبرصية، وكانت هذه الغارات أشبه بغارات القراصنة القصد منها السلب والنهب واختطاف الأهالي بغية المطالبة بفدياتهم.
   وأول هذه الغارات التي شنها القبارصة غارة قام بها هؤلاء الإفرنج على الدامور الواقعة إلى الشمال من صيدا في سنة 702 ه / 1302 م في نفس العام الذي فتح فيه المماليك جزيرة أرواد، ففي 8 جمادى الأول من هذه السنة نزلت جماعات مسلحة من الإفرنج على نهر الدامور، فاشتبك معها الأمير فخر الدين عبد الحميد بن جمال الدين التنوخي وأخوه الأمير شمس الدين عبد الله مع عسكر المسلمين في معركة انتهت بتغلب الإفرنج وسقط الأمير فخر الدين صريعاً في حين وقع أخوه شمس الدين أسيراً في أيدي القبارصة، فاستبقوه خمسة أيام ثم افتداه الأمير ناصر الدين الحسين ابن خضر متولي الغرب بمبلغ من المال قدره ثلاثة آلاف دينار صورية (الدويهي، ص160 – الشدياق، ج1 ص277).
   ولم يمض على هذه الغارة أربعة أعوام حتى تعرضت مدينة صيدا نفسها لغارة بحرية عنيفة. ويذكر صالح بن يحيى أنه "في العشر الأخير من جمادى الأول جاز على بيروت تعميرة للإفرنج، ولم يتعرضوا لها وتوجهوا إلى صيدا، فأخذوها وقتلوا منها جماعة وأسروا جماعة، ونهبوا منها شيئاً كثيراً، وكذلك المسلمين قتلوا من الإفرنج جماعة وبعثوا برؤوسهم إلى دمشق وعلقوا على القلعة، فكانت بضع وثلاثين رأساً". وبادر الأمير شهاب الدين بن صبح نائب صفد بالسير إلى صيدا سابقاً عسكر دمشق، ولكنه أدرك السفن الصليبية وهي راسية على جزيرة صيدا بعد انتهائها من الغارة، فافتدى جميع الأسرى من أموال ديوان الأسرى وقدرها ثلاثون ألف درهم افتدى بها ستين أسيراً (صالح بن يحيى، ص29 – وينقل الأستاذ يوسف مزهر التاريخ خطئاً فيؤرخ الغارة في 1304 م بدلاً من 1306 " مزهر، ج1 ص244").
   ويروي الدويهي ت1699 م عن ابن سباط أن مراكب الإفرنج قصدت صيدا في سنة 756 ه / 1355 م وهاجموا المدينة وقتلوا طائفة من أهلها وأسروا طائفة أخرى، فقاتلهم أهل صيدا قتالاً شديداً وقتلوا منهم عدداً كبيراً، ودمروا مركباً من مراكبهم، واستنجد أهل صيدا بنائب دمشق، فاحتشدت الأجناد من دمشق وصفد ووصلت بعد انتهاء المعركة، وبادر المسلمون بافتداء الأسرى على أساس 500 درهم لكل أسير، وأنفقوا في ذلك مبلغاً قدره 30 ألف درهم من مال ديوان الأسرى (الدويهي ص183 – الدبس، ج6 ص405).
   ويذكر النويري الإسكندري في مخطوطة الإلمام بما قضت به الأحكام أن ثلاثة أغربة قبرصية قدمت إلى ميناء أبي قير الواقعة إلى الشرق من مدينة الإسكندرية في فجر يوم 27 شعبان سنة 765 ه / 1363 م، وأسر أصحابها من قصور البساتين 76 من المسلمين ما بين رجال ونساء وصبيان، ومضوا بهم إلى ساحل صيدا، ففاداهم أهل صيدا بمال وردوهم إلى أوطانهم (النويري الإسكندري، الإلمام بما جرت به الأحكام المقضية في وقعة الإسكندرية، نسخة مصورة من المخطوطة المحفوظة بدار الكتب المصرية المقيدة برقم 1449 تاريخ، محفوظة بمكتبة آداب الإسكندرية برقم 737 م، ورقة 72ب، 73أ) .
   ثم توالت غارات القبارصة على صيدا منذ سنة 769 ه / 1367 م على نحو يكاد يكون متواصلاً: ففي هذه السنة أغار إبراهيم بن الخبازة القبرصي أحد قواد القبارصة البحريين في غيبة صاحب قبرص بغرابين وشيطي على بلدة الصرفند الواقعة على بعد 15 ك.م. جنوبي صيدا، بنية خطف نسائها ونهبها، ولكنه لم يخرج من هذه الغارة التي قتل فيها ثلاثين نفراً من أهل الصرفند إلا بعدد قليل من الأسرى يصل إلى 13 أسيراً (النويري، المصدر السابق، ورقة 99أ – 100ب  Aziz Surial atiya, The crusade in the Later Middle Ages, London, 1938, p. 363  - سعيد عاشور، الحركة الصليبية، ج2 ص1228).وقد أورد النويري تفصيلات عن هذه الغزوة نقلها عن الشيخ عبد الله ابن نجم الصرفندي الذي رحل إلى الإسكندرية بعد الوقعة المذكورة، فذكر أن رجلين من أهل الصرفند تخاصما، "فمضى أحدهما يشتكي الآخر من عند والي صيدا، فلما كان في الليل ضرب البوق والزمر، فظن أهل البلد أن الرجل أتى بكبس الصرفند، فخرج أهل البلد منه هاربين، فبينما هم خارجين من البلد وإذا بالناس يصيحوا ارجعوا إلى بلدكم، وقاتلوا عدوكم، فإنما هم إفرنج. فرجعت الناس، فهربت الإفرنج بعد أن قتلوا من المسلمين ثلاثين نفراً ممن أدركوه في أزقة البلد وأسروا ثلاثة عشر منهم ثلاث نسوة وأربع صبيان وأربع بنات وطفلين على أكتاف أمهاتهما، ولم ينالوا من البلد شيئاً غير المأسورين المذكورين" (النويري، المصدر السابق، ورقة 100أ).
   وفي أواخر هذا العام خرج سنجوان دمرف القبرصي Jean de Morf  عم بطرس الثاني دي لوزنيان بن هيو الرابع ملك قبرص 1369 – 1382 والوصي عليه، في أربع بطسات وأغار على سواحل صيدا والبترون وأنطرطوس واللاذقية (Aziz Surial Atiya, op. Cit. P. 374 – عبد العزيز سالم، طرابلس الشام، ص364) .
   ثم انقطعت غارات القبارصة على صيدا فترة طويلة استمرت نحواً من ستة وأربعين سنة من 1367 حتى 1413 م، وذلك بعد أن عقدوا الصلح مع السلطان المملوكي المنصور علاء الدين علي بن شعبان في سنة 772 ه / أكتوبر 1370 م. ثم عاودوا الغزو في سلطنة المؤيد شيخ 815 – 824 ه رداً على غارات المماليك على قبرص في عامي 813 ، 814 ه. ففي سنة 816 ه / 1413 م أغار القبارصة على بلدة الدامور الواقعة إلى الشمال من صيدا في منتصف الطريق إلى بيروت، فبادر الملك داود الجركسي بالنهوض إليهم من دمشق، وانضم إليه الأمير قاسم بن محمد بن أبي بكر بن حسين الشهابي أمير وادي التيم ولبنان برجاله (الدويهي، ص201 – الشدياق، ج1 ص47، ج2 ص301)، والأمير سيف الدين أبي المكارم يحيى بن نور الدين صالح أمير الغرب، وبادر لنجدتهم السلطان الملك المؤيد شيخ المحمودي نائب السلطنة بدمشق، وكان على مدينة بعلبك، فركب من وقته ووصل إلى بلدة الناعمة (تقع في الطريق بيروت – الدامور – صيدا على مسافة غير بعيدة من خلدة) حيث يقع معسكر أمير الغرب، وقاتل هو والأمراء الآخرين الإفرنج بعد أن دخلوا في بلاد صيدا وبيروت وعاثوا فيها فساداً، فتغلب عليهم وقتل منهم سبعين شخصاً (بدر الدين العيني، السيف المهند في سيرة الملك المؤيد، تحقيق الأستاذ فهيم محمد شلتوت، القاهرة، 1967 ص228 – إبراهيم الأسود، ذخائر لبنان، ص185)، وأجلاهم في شوانيهم عن الساحل، وفي ذلك يقول العيني:
          له غزوات مع فرنج بساحل  بصيدا وبيروت بعز تشيد
(العيني، المصدر السابق، ص4 – الشدياق، ج2 ص301، 302)
   وقد أدت هذه الغارة وغارات أخرى قام بها الكتيلان والقبارصة على سواحل يافا والإسكندرية في سنة 819 ه / 1417 م، واعتدائهم على الإسكندرية من جديد في شعبان سنة 825 ه / 1422 م وفي العام التالي، إلى قيام السلطان الملك الأشرف برسباي 825 – 841 ه بالرد على هذه السياسة العدوانية رداً حاسماً، ففكر جدياً في فتح جزيرة قبرص، وبدأ في سنة 827 ه / 1423 م بتسيير حملة استطلاعية تمهيداً لافتتاح الجزيرة المذكورة سماها العيني الغزوة الصغرى (نفس المصدر، ج25 قسم 3 من المخطوطة وعنوانها "عقد الجمان في تاريخ أهل الزمان"،المحفوظة بدار الكتب المصرية برقم 1584 تاريخ، ورقة 572  Ziada (M. M.),The Mamluk conquest of Cyprus, Bulletin de la Faculte des Lettres, Univ. d'Egypte, vol. I, partie 1ere, Mai, 1933, p. 93) ، ثم سير في العام التالي أسطولاً يتألف من 40 سفينة بقيادة الأمير جرباش الكريمي، اشتركت فيه قوة تونسية من قبل السطلان الحفصي أبي فارس ت 1434، وأرست الحملة بالماغوصة، وهزم المماليك القبارصة في عدة مواقع، وعادت السفن المصرية إلى قواعدها وهي تحمل ما يزيد على ألف أسير (العيني، ج25 قسم3 ص576). وتم فتح جزيرة قبرص في صيف سنة 829 ه / 1425 م (نفسه، ص580 – ZIADA, OP. CIT. P. 100  - طرابلس الشام، ص390).
   أدى احتكار البنادقة لمعظم النشاط التجاري في حوض البحر المتوسط إلى قيام نزاع بينهم وبين الجنوية منافسيهم في التجارة البحرية، وعمد الجنوية إلى وقف هذا النشاط وعرقلته عن طريق شن الغارات على سواحل الشام ومصر، وانضم إلى الجنوية في هذه الغارات طوائف من قراصنة الكتيلان والروادسة والقبارصة، وتعرض ثغر صيدا لاعتداءاتهم عدة مرات، أولها في جمادى الآخر سنة 784 ه / 1382 م وذلك عندما قام الجنوية بعملية إنزال على الساحل الصيداوي، واستولوا على المدينة، وعاثوا فيها فساداً، وتمكنوا من الاستيلاء على بضع مراكب صغار، ثم توجهت سفنهم بعد ذلك إلى بيروت. وبلغ سيف الدين بيدمر الخوارزمي نائب السلطنة في الشام نبأ نزولهم في صيدا ثم خروجهم عنها إلى بيروت فقال: "صيدا ما بقينا نلحقها، نروح نلحق بيروت"، فسار في حشوده إلى بيروت في الوقت الذي وصلت فيه سفن الجنوية، فأحجم هؤلاء عن النزول، وعادت سفنهم إلى قبرص (القلقشندي، مآثر الإنافة في معالم الخلافة، تحقيق الأستاذ عبد الستار أحمد فراج، الكويت 1964، ج2 ص188 – صالح بن يحيى، ص31 ، 33 – الدبس، ج6 ص415  Lammens, t. II, p. 19 ) .
   واستمر الصراع قائماً بين الجنوية والبنادقة حتى طليعة القرن التاسع الهجري، ففي 20 من المحرم سنة 806 ه / 1404 م أغار الجنوية على بيروت في 37 شيني و 9 مراكب صغار بقيادة أمير البحر الفرنسي بوسيكو (Lammens, p, 19) ، وتوجهوا في نفس الليلة إلى جهة صيدا، حيث نزلوا إلى البر على مسافة لا تزيد على ميل من المدينة، وكان قد اجتمع على صيدا العشران (العشران بمعنى الأحزاب مفردها عشير، وقد اشتهر من العشران عشير البقاع وعشير صيدا وبيروت "راجع: عيسى اسكندر المعلوف، تاريخ الأمير فخر الدين المعني الثاني، بيروت 1966 ص56 حاشية رقم2) وغيرهم، ولم يجسر الجنوية على دخول صيدا لكثرة من احتشد فيها من جيوش المسلمين، وكان شيخ الخاصكي نائب السلطنة في دمشق قد خرج منها في دورته بالبقاع وبعلبك، فبلغه نبأ نزول الجنوية على طرابلس، فتوجه إليها، ولكنه وصل بعد فوات الأوان، ثم مضى إلى بيروت وقد خرج الجنوية منها إلى صيدا، فهاجمهم واشترك معه في الهجوم بنو بحتر أمراء الغرب، فرماهم الجنونية بالجروخ، وأصيب فرس الأمير شيخ، كما أصيب جماعة من المسلمين، واضطر الجنوية إلى التراجع نحو سفنهم التي انسحبت من الشاطئ إلى ميناء الجزيرة (الميناء الخارجي)، وأقام المسلمون يراقبونهم طوال الليل على الساحل، واستعد الأمير شيخ لتلقيهم في الصباح إذا أعادوا النزول إلى البر، وأمر بإحضار مصاريع الأبواب واتخاذها زحافات وستائر للزحف عليها عند نزولهم، ولكنهم إذ أدركوا تأهب المسلمين لتلقيهم ومنازلتهم أحجموا عن النزول إلى البر، واتجهوا بسفنهم إلى شمال بيروت قاصدين نهر الكلب بقصد أن يتزودوا بالمياه، ثم انسحبوا بعد ذلك إلى سفنهم، وعادوا من حيث أتوا إلى بلادهم (صالح بن يحيى، ص33 ،34) .
   كان من أثر الغارات سالفة الذكر على ثغر صيدا، أن وجه نواب السلطنة في دمشق وولاتهم على صيدا اهتماماً خاصاً بتحصين المدينة وترميم أسوارها وقلاعها تمكيناً للدفاع عنها ضد المغيرين من القبارصة أو الجنوية، وقد رأينا فيما زودنا به الرحالة العرب والغربيين ما يدل على أن المدينة زودت بتحصينات هامة في العصر المملوكي، ويتجلى الطابع الإسلامي المملوكي في بعض القبوات المتعارضة في بهو البرج الكبير بالقلعة البرية، وهيقبوات تقوم على دعامتين من البناء قطاعهما مربع الشكل (Dechamps, p. 229) . ونرى الأثر الإسلامي المملوكي واضحاً في الجانب الجنوبي الغربي من قلعة البحر، ويتجلى ذلك بصورة لا تخفى على الباحث في البرج الرئيسي (أ)، وهو برج كبير الحجم ذو طابقين ثم يعلوه سطح كان مشرف الذروة ثم فقدت هذه الشرفات مع ما تخرب من القلعة عندما تعرضت للمدافع الإنجليزية في سنة 1840 (أحمد عارف الزين، ص103).
   ويبدو هذا البرج الضخم في وجهه القبلي المطل على المدينة مدوراً بينما يبدو في الجهات الأخرى مستطيل الشكل، وتنفتح في الطابق الأول منه في كل وجه من وجوهه نافذة معقودة بعقد منكسر الرأس ويتخلل وجوهه منافذ للسهام، ويمكن للمرء أن يصعد من هذا الطابق إلى الطابق الثاني عن طريق درج ضيق يدور في الجانب الشمالي منه. ويتمثل الأثر الإسلامي المملوكي في القبوات المتعارضة التي تكوّن سقوفه، ونجد لهذه القبواتنظائر في سائر منشآت المماليك الحربية والمدنية، كما يتمثل هذا الأثر الإسلامي في طابع منافذ السهام من الداخل، وفي العقود المدببة التي تعلو النوافذ المستطيلة الشكل لا سيما العقد ذي الوسائد المتصلة وهو المعروف بالمخدد الذي يطوق فتحة النافذة الشمالية من البرج المذكور، وهو عقد تشاهد نماذج منه في بوابة الفتوح في القاهرة، وفي مدخل جامع الظاهر بيبرس، ومدخل خانقاه بيبرس الجاشنكير ونافذة مئذنة سنجر الجاولي في القاهرة، وفي مئذنة جامع الأمير سيف الدين طينال بطرابلس ومنظرة المدرسة الشمسية المطلة على مدخل الجامع المنصوري الكبير بطرابلس (طرابلس الشام، ص419). ويؤكد الأثر الإسلامي الواضح للبرج نقش تاريخي على لوحة من الرخام الأبيض صغيرة الحجم مثبتة بأعلى النافذة المذكورة بقلعة صيدا البحرية، يتضمن عدداً من السطور الكتابية بالخط النسخي قرأتها بصعوبة شديدة بسبب اختفاء ومحو كثير من الكلمات، وتآكل الكتابة في السطر الأخير كله، ونطالع في هذه اللوحة التذكارية النص الآتي: [ بسم الله الرحمن الرحيم أنشأ هذا الحصن (ب) السعيد المقر الكريم العالي المولوي الإمامي العا (ج) دلي العالمي … (د) جلبان الظاهري … (ه) أنصاره على نية الغزاة في سبيل الله تعالى في سنة اثنين (و) وخمسين (وسبعمائة) …].
   ونستدل من الألقاب الواردة في النص المذكور على أن البناء أقيم في العصر المملوكي، وأن منشئ الحصن هو الأمير جلبان الظاهري الذي لا نعرف عنه شيئاً. وقد استطعنا أن نطالع بصعوبة بالغة الرقمين الأولين من تاريخ الإنشاء وهما اثنين وخمسين، أما الرقم الثالث الذي يدل على المئات، ويقع في السطر الأخير من النقش فقد محيت معالمه ومعالم ما بقي من كلمات النقش حتى نهاية السطر تماماً، ولذلك كان علينا أن نفترض لتكملة التاريخ الإنشائي ثلاث افتراضات نعني بها أرقام ستمائة وسبعمائة وثمانمائة. أما الافتراض الأول فنستبعده لأن صيدا كانت في التاريخ الذي يسجله هذا الافتراض الأول وهو 652 ه ما تزال خاضعة للصليبيين، ولهذا فإننا نحصر الاختيار بين 752، و852 ه. ويبدو لنا تاريخ 752 ه أكثر الافتراضين احتمالاً وذلك لعاملين: الأول، أن معظم الرحالة العرب والأوروبيين الذين زاروا صيدا في القرن الثامن الهجري أو الرابع عشر الميلادي يؤكدون أن المدينة كانت حصينة، بل أن القلقشندي المتوفي في سنة 821 ه يؤكد أن المدينة كانت مزودة بقلعة منيعة لا ترام/ والثاني، أن صيدا شهدت في هذا القرن الثامن الهجري عصر الغارات القبرصية والجنوية المتواصلة التي استهدفت نهب المدينة وتدمير منشآتها وقتل وأسر سكانها، واستلزم الأمر ضرورة ترميم القلاع والأسوار القديمة، لا سيما القلعة البحرية التي تحمي الساحل حتى تقوى المدينة على الصمود أمام الغزاة ورد المغيرين عليها. والرقم الثالث الذي افترضناه وهو (ثمانمائة) يجعل تاريخ إنشاء البرج في سنة 852 ه أي بعد انتهاء عصر الغارات. وقد سبق أن أشرنا إلى أن الأشرف برسباي استولى على جزيرة قبرص، المركز الرئيسي للاعتداءات القبرصية والجنوية على سواحل مصر والشام، في سنة 829 ه، فيكون بناء البرج في سنة 852 ه قد جاء متأخراً للغاية.
   وعلى هذا الأساس نرجح تاريخ سنة 752 ه ليكون تاريخ إنشاء البرج المذكور. وعلى أساس صحة افتراضنا يمكننا أن ننسب الأمير جلبان الظاهري الذي ورد اسمه في النقش إلى السلطان الملك الظاهر ركن الدين بيبرس المتوفي سنة 676 ه.
   أما الأسوار الباقية، فقد اتخذت جدراناً لصف من الدور تمتد من البوابة الفوقا حتى البوابة التحتا في الشمال، ويتجلى من آثار هذه الأسوار أنها أقيمت على عجل، وأنه لم يراع في بنائها النظم المعمارية الحربية المتبعة في التحصينات الضخمة التي أقيمت في عصر المماليك. ولم يتبق من البوابتين الفقيرتين المتبقيتين من بوابات صيدا سوى منبتا عقديهما بالإضافة  إلى عضادتي كل منهما، ويحتاج الأمر إلى دراسة تفصيلية دقيقة لبقايا التحصينات المملوكية بصيدا.
خاتمة
نهوض صيدا في عصر الأمير فخر الدين المعني الثاني
   حسمت موقعة مرج دابق رجب 922 ه / 1561 م مصير الشام ومصر فأصبحتا تابعتين للدولة العثمانية، وأصبحت دمشق التي أسندت نيابتها إلى جان بردي الغزالي إيالة عثمانية تضم عشر سنجقيات، من بينها صيدا. وزاد اضمحلال صيدا في العصر العثماني وفقدت أهميتها، وأصبحت أقرب ما تكون إلى القرية منها إلى المدينة، وقد اعتبرها صاحب الكواكب السائرة قرية عندما ترجم للشيخ كمال الدين محمد الخطيب، سبط الشيخ البرهان الباعوني المتوفي في صيدا في 12 جمادى من سنة 923 ه (الغزي، الكواكب السائرة في أعيان المائة العاشرة، تحقيق الأستاذ جبرائيل سليمان حبور، بيروت، 1945، ج1، ص88).
   وفي بداية العصر العثماني خرج الأمير ناصر الدين محمد بن الحنش صاحب صيدا والبقاعين عن طاعة السلطان العثماني، فاستولى جان بردي الغزالي على صيدا، وفر الأمير ابن الحنش (الشدياق، ج1 ص293، ج2 ص303)، ثم قتل. فولى السلطان سليم الأمير محمد بن قرقماس على بيروت وصيدا بالإضافة إلى التقدمة على بلاد البقاع، وذلك في 28 ذي الحجة سنة 923 ه / 1517 م (شمس الدين محمد بن طولون، مفاكهة الخلان في حوادث الزمان، تحقيق الدكتور محمد مصطفى، قسم 2، القاهرة، 1964، ص77).
   ثم أخذت الحياة تدب في صيدا من جديد منذ أن اتخذها الأمير فخر الدين المعني الثاني بن قرقماز بن فخر الدين الأول في سنة 1594 حاضرة لإمارته ومقراً له. ولم تلبث إمارة الشوف التي يتولاها أن اتسعت بعد أن ضم إليها بيروت وكسروان لمدة عام واحد، وذلك بعد انتصاره على يوسف باشا سيفا والي طرابلس في موقعة جرت عند نهر الكلب في سنة 1598، ثم تركها له برضائه (الدويهي، ص291 – عيسى اسكندر المعلوف، ص69، 70 – الشدياق، ج1 ص294). وفي فترة رحلته إلى توسكانا بإيطاليا فيما بين عامي 1612 – 1617 م انتزع أحمد باشا الحافظ ولاية بيروت وكسروان من أتباع فخر الدين وسلمها إلى حسين باشا بن يوسف سيفا، كما أسند سنجقية صيدا إلى ابن البستنجي. ولما عزل الحافظ من منصبه في أواخر سنة 1614 بعد صدور فرمان العفو عن فخر الدين، أنعم جركس محمد باشا نائب دمشق الجديد على المير يونس المعني، شقيق فخر الدين، بسنجقية صيدا وبيروت وبلدانهما كما أنعم على الأمير علي بن فخر الدين بسنجقية صفد في سنة 1614. وعندما عاد فخر الدين من رحلته في إيطاليا عمد إلى توسيع منطقة نفوذه، ففي سنة 1618 استولى على جبيل وهدمها وولى عليها الشيخ أبا نادر الخازن (نفس المرجع، ص311 – عيسى المعلوف، ص177 ، 178)، وتمكن من استعادة عدة سنجقيات مثل صيدا وصفد ونابلس وبعلبك والبقاع وطرابلس وحوران وعجلون والكرك، فاتسع سلطانه وأدخل في إمارته أنواعاً جديدة من الزراعة كالتوت اللازم لتربية دود القز، كما طوّر الصناعات ونشّط التجارة البحرية، فكثرت موارده. وفي سنة 1620، حاصر فخر الدين قلعة طرابلس وكاد ينتزعها من يوسف باشا سيفا (نفس المرجع، ص313 – عيسى المعلوف، ص180)، وفي العام التالي ولاّه محمد باشا الكرجي على جبيل والبترون وبشرّي والضنية وعكار بالإضافة إلى إمارة الشوف وسنجقية صيدا (الخالدي الصفدي، تاريخ الأمير فخر الدين المعني، تحقيق الدكتور أسد رستم والدكتور فؤاد أفرام البستاني، بيروت 1969 ص101 – عيسى المعلوف، 181). ولم يمض على ذلك عامان 1624 حتى أنعم عليه السلطان بولاية عربستان وتمتد من حدود حلب إلى حدود العريش (الدويهي، ص318 – عيسى المعلوف، ص180). وتلقب بلقب "سلطان البر" وهو اللقب الذي كان يحمله جده فخر الدين الأول ( المعلوف، ص188 – إبراهيم الأسود، ذخائر لبنان، ص235). وإلى هذه الفترة ترجع معظم منشآته وأعماله الداخلية، فقد شيد القصور وغرس الحدائق وأسس الفنادق، وحصّن القلاع، ونهض بالزراعة والصناعة والتجارة، وعقد المعاهدات التجارية مع قناصل الإفرنج (نفس المصدر، ص189).
   غير أن الدولة العثمانية لم تلبث أن ارتابت في نوايا الأمير فخر الدين بسبب سعيه المتواصل لتخليص الشام من السيطرة العثمانية وإقامة دولة مستقلة، بالإضافة إلى ارتباطه بصلات سياسية مع بعض الدول المناهضة للدولة العثمانية، فعمدت إلى محاربته والقضاء عليه. وعهد السلطان مراد إلى الوزير الكجك أحمد باشا بقيادة حملة هدفها القبض على الأمير فخر الدين. وتم أسره في آخر جمادى الثاني سنة 1633، وحمل إلى القسطيطينية مع ثلاثة من أولاده هم منصور وحيدر وبلك وزوجاته الأربعة، ثم قتل بأمر السلطان مراد هو وأولاده الثلاثة وزوجاته في 13 مارس سنة 1635.
   وشهدت صيدا في عهد الأمير فخر الدين الثاني ازدهاراً لم تشهده منذ أيام الدولة الفاطمية، فقد تهمم بها الأمير وخصّها بعنايته مذ اتخذها قاعدة لولايته، وكانت صيدا قبل ذلك مجرد قرية صغيرة تقوم في نواحيها أطلال دارسة من تاريخها القديم والوسيط، فعمل على تجديد رسومها وترميم ما عفى من أبنيتها وقلاعها وتحسين مرفئها وترويج تجارتها، واهتم بتنمية مواردها عن طريق تنشيط الحركة التجارية وحماية التجار من القراصنة، وتشجيع الصناعة وعلى الأخص صناعة الحرير والصابون والصباغة (عيسى المعلوف، ص90)، وربط صيدا تجارياً بتوسكانا وغيرها، وزودها بالفنادق والخانات لنزول تجار الإفرنج. ومن أهم منشآت فخر الدين المدنية والاقتصادية: إنشاء جسرين أحدهما على نهر الأولي من عقد واحد أقامه المهندس فرنسيسكو شيولي، والثاني على نهر القاسمية (نفس المرجع ص254 – يوسف مزهر، ج1 ص338 – فيليب حتي، ص457) جنوبي صيدا، بينها وبين بلدة الصرفند، وإنشاء الخانات لنزول التجار الأجانب وأهمها خان الإفرنج أو الخان الفرنساوي الذي أصبح اليوم داراً لليتيمات تحت إدارة راهبات مار يوسف (نفسه، ص263)، وخان الرز. كذلك أسس قصراً لم يستكمل بناؤه يقع بإزاء خان الإفرنج، وأسس قصوراً أخرى تحيط بها الحدائق والبساتين. ومن أهم منشآته المدنية أيضاً توسيعه لمرفأ صيدا، وإنشائه الحمام البراني المعروف بحمام المير. أما أعماله الحربية فتقتصر على ترميم قلعة البحر وإقامة مسجد بها بقيت كثير من عناصره في وقتنا الحاضر. وقد اجتذبت هذه الإنشاءات وما أجراه من تسهيلات، التجار الأجانب وعلى الأخص التجار الفرنسيين (Frederick, p. 105, 106) . ولكن كل هذا الإزدهار الذي نعمت به صيدا لمدة ثلاثين سنةلم يلبث أن غربت شمسه عندما
طمر فخر الدين الميناء بالرمال والحجارة وحطام السفن حتى يوعر على الأتراك الطريق إلى اقتحامها بأساطيلهم (عيسى المعلوف، ص240  Frederick p. 106  - مزهر، ج1 ص350).
   ثم تولى على صيدا وبيروت بعد آل معن أحمد آغا الشمالي، ولكنه لم يلبث أن قتل في أرض خلدة على يد ابن علم الدين في سنة 1638 إبان الصراع بين القيسية واليمنية (الدويهي، ص338)، ثم تسلمها محمد باشا الأرناؤوط والي طرابلس الذي أسند حكمها إلى زلفى آغا (نفسه، ص341)، ثم ولي عليها محمد باشا الأرناؤوط إسماعيل آغا (نفسه، ص352).
   ومنذ سنة 1658 أصبحت صيدا نيابة يتولاها الباشا، فتولاها في سنة 1660 علي باشا الدفتردار، ولما عزل في سنة 1662 تولاها محمد باشا الأرناؤوط. وظلت كذلك ما يقرب من قرن، ولكن المدينة اضمحلت اضمحلالاً شاملاً، ولم تنهض من عثرتها إلا بعد الاستقلال عندما أصبحت قاعدة جنوب لبنان.




معركة التحرير
   انتصرت جيوش المماليك انتصاراً حاسماً على جيوش المغول وحلفائهم من الأرمن وفرنج أنطاكية في موقعة عين جالوت المشهورة التي جرت في 26 من رمضان سنة 658 ه / 3 سبتمبر سنة 1260 م. وفي نفس هذا العام ارتقى الأمير المملوكي ركن الدين بيبرس البندقداري عرش السلطنة في مصر والشام باسم السلطان الملك الظاهر، بعد أن وثب على السلطان الملك المظفر سيف الدين قطز بطل وقعة عين جالوت.
   واتبع بيبرس مع الصليبيين سياسة تقوم على العنف والصرامة مستهدفاً إخراجهم نهائياً من أراضي الشام، إذ لم يكن قد نسي بعد الدور الذي لعبه بوهمند السادس ومن حذا حذوه من الصليبيين لمساندة المغول، ورأى أن يبدأ بتوجيه أولى ضرباته إلى إمارة أنطاكية، لمعاقبة أميرها على محالفته للمغول، فلقد كان بيبرس يعتبر بوهمند العدو الأعظم له من بين جميع أمراء الإفرنج، ومنذ سنة 660 ه / 1362 م بدأ بيبرس عملياته الحربية في أنطاكية، فغزاها الأمير شمس الدين سنقر الرومي في هذه السنة، وهاجم ميناءها، وعاد ومعه ما يزيد على ثلاثمائة أسير (ابن تغري بردى، النجوم الزاهرة، ج7 ص118 – منتخبات من كتاب عقد الجمان لبدر الدبن العيني في R. H. C. t. II القسم الأول، ص221 – طرابلس الشام، ص266). وفي سنة 663 ه / 1265 م استولى بيبرس على مدينة قيسارية وأرسوف، وفي العام التالي 664 ه هاجم قلعة صفد وتمكن من الاستيلاء عليها. وفي الجبهة الشمالية هاجمت قواته مدينة طرابلس وبلاد السواحل وحصن الأكراد واستولت عليه، كما استولت على قلعة حلبا والقليعات (طرابلس الشام، ص267). وفي يده (المقريزي، السلوك، ج1 قسم2 ص545 ). ويذكر صالح بن يحيى أن الأمير جمال الدين حجي عهد إلى بدر الدين بن رحال بالمرابطة في قبالة فرنج صيدا وبيروت والمثاغرة لهم، كذلك أورد صالح بن يحيى نص كتاب زي الدين آقوش النجيبي نائب الشام إلى زين الدين صالح بن علي بن بحتر أمير الغرب في زمن الظاهر بيبرس، وإلى جمال الدين حجي يأمرهما فيه بعدم تفريق جموعهما وإعادة جمعها وتوجيهها إلى جهة صيدا، والاجتهاد في المساعدة على حفظ هذا الثغر، كذلك كتب بيبرس إلى زين الدين وجمال الدين حجي كتاباً يأمرهما فيه بالاستمرار في الخدمة والنصح لدولته ويعدهما بالمكافأة لقاء إطلاعه على الأخبار والمتجددات، وهو بذلك يهدف إلى اتخاذهما عينين له يتجسسان له أخبار الإفرنج وأن يكونا مثاغرين على صيدا وبيروت (صالح بن يحيى، ص61 – 64).
   وهكذا بدأ بيبرس يطبق سياسة من الصرامة تجاه الصليبيين، وعندما أيقي هؤلاء بتحول ميزان القوى إلى جانب المماليك طلبوا منه الصلح، ووصلت رسلهم إلى السلطان في سنة 665 ه يعرضون عليه المناصفة في صيدا وهدم الشقيف. وتردد السلطان بيبرس بادئ ذي بدء في إجابتهم إلى طلبهم، ولكنه لم يلبث في العام التالي أن قبل عرضهم، وأبرمت معاهدة للصلح مدتها عشر سنوات، في أول سنة 667 ه / 1269 م بينه وبين صاحب عكا، اتفق فيها على أن بلاد صيدا الوطأة (السواحل) للإفرنج والجبليات للسلطان (منتخبات من كتاب عقد الجمان لبدر الدين العيني، في كتاب R. H. C., t. II, partie Iere ص225، 236).
   وظلت صيدا بمنأى عن الغزوات الإسلامية المدمرة في السنين الأخيرة من الصراع بين الإفرنج والمسلمين، ومع ذلك فقد اتخذت جانباً في النزاع الخطير الذي نشب بين بوهمند السابع صاحب أنطاكية وطرابلس 1275 – 1287 م ومقدم الداوية في صيدا جيوم دي بوجيه ومعه جاي الثاني المعروف بسيركي صاحب جبيل في سنة 677 ه / 1278 م، وتعرضت صيدا إبان هذا النزاع لهجوم شنته 15 سفينة سيرها بوهمند السابع، ونزلت قواته عند قلعة البحر حيث وقعوا أسرى في أيدي الداوية، وقد تعرضت صيدا بسبب هذه الغارة لأضرار فادحة Frederick, p. 98 – Deschamps, p. 226 – Grousset, t. III, p. 689).
   واستمر الصراع قائماً بين بوهمند السابع ومقدم الداوية ومعه صاحب جبيل حتى سنة 681 ه / 1282 م، فقد حاول جي في هذه السنة الاستيلاء على طرابلس عن طريق المفاجأة، فخرج في ثلاث حمّالات تحمل فرقة من العسكر عدتهم 25 من الخيالة، و400 من الرجّالة كلهم من مواطنيه الجنويين، ولكن بوهمند حاصره هو ورجاله، وألقى القبض عليه، وعاقب الجنويين بأن أمر بسمل أعينهم، أما مصير جي فكان أبشع، إذ دفن هو وأخواه وابن أخته أحياء في حفرة في آخر فبراير سنة 1282 م (ابن تغري بردى، ج7 ص316 حاشية2  Stevenson, p. 348K ، وراجع تفاصيل المغامرة في :
Michaud, Histoire des Croisades, vol. IV, Paris, 1822, p. 650- Grousset, t.III, p. 689-690
رنسيمان، ج3 ص658 وما يليها) . وفي نفس الوقت قام صراع بين هيو الثالث ملك قبرص وبيت المقدس وبين الداوية، وساعدت هذه الخلافات والحروب الأهلية على زيادة اضمحلال إمارات الإفرنج، ومهدت السبيل أمام سلاطين المماليك منذ أيام المنصور سيف الدين قلاوون للتغلب عليهم وطردهم نهائياً من بلاد الشام.
   وكان قلاوون منذ توليه السلطنة يحرص على مهادنة الصليبيين حتى يؤمن ظهره عندما يتفرغ لرد العدوان المغولي على الشام، ولذلك لم يتردد في الموافقة على تجديد الهدنة بينه وبين فرسان الإسبتارية بعكا في 22 من المحرم سنة 680 ه / 3 مايو سنة 1281 م، وبينه وبين بوهمند السابع لمدة عشرة سنوات كاملة. وفي 5 ربيع الأول سنة 682 ه / 3 يوليو 1283 م عقدت الهدنة بين قلاوون وولده الصالح علاء الدين علي بين حكام مملكة عكا وصيدا وعثليث ولبلادها وهم كفيل المملكة بعكا السنجال أودو Le Senechal Odo Poilechien وكان يحكم نيابة عن الملك شارل الأنجوي Chargles d'Anjou (E. J. King, The Knights of Hospitallers in the Holy Land, London, 1931, P. 284 – Stevenson, the Crusaders, p. 346)
ثم " المقدم إفرير كليام ديباجوك مقدم بيت الديوية, والمقدم إفرير نيكول للورن (Frere Nicolas Le Lorgne) مقدم بيت الاسبتار والمرشان إفرير كورات نائب مقدم الإسبتار" (المقريزي، السلوك، ج1 قسم3 ص986 – القلقشندي، ج14 ص52 – محيي الدين ابن عبد الظاهر، تشريف الأيام والعصور في سيرة الملك المنصور، تحقيق الدكتور مراد كامل، القاهرة، 1961، ص34). ونصت الهدنة على أن "صيدا القلعة والمدينة والكروم وضواحيها وجميع ما ينسب إليها يكون خاصاً للإفرنج ويكون لها من البلاد خاصاً خمس عشرة ناحية، وما في الوطأة من أنهار ومياه وعيون وبساتين وطواحين ومنى ومياه جارية وسكور لهم بها عادة قديمة تسقي أراضيهم يكون خاصاً لهم وما عدا ذلك من البلاد الجبلية جميعها تكون لمولانا السلطان ولولده بكمالها". واشترط قلاوون في الهدنة على ألا يقوم الإفرنج بتجديد سور ولا قلعة ولا برج ولا حصن قديم ولا مستجد في غير عكا وعثليث وصيدا مما هو خارج عن الأسوار في هذه الجهات الثلاث (ابن عبد الظاهر، المصدر السابق، ص41 – المقريزي، السلوك، ج1 قسم 3 ص985 وما يليها). وفي سنة 1289 تجددت الهدنة بين قلاوون ومملكة بيت المقدس وقبرص بعد أن اعتذر هنري لاشتراك المنظمات الدينية العسكرية في نقض الهدنة، ولكن إفرنج عكا نكثوا الهدنة عندما قتلوا جماعة من تجار المسلمين كانوا قد قدموا إلى عكا بمتاجر تمسكاً بالهدنة والعهد ومن جملتهم تجار قدموا في البحر ومعهم طائفة من المماليك أرسلوا هدية إلى السلطان (صالح بن يحيى، ص22). ويذكر رنسيمان أن تجديد الهدنة بين الملك هنري وقلاوون أعاد بعض الثقة في عكا، فعاد التجار المسلمون يمارسون تجارتهم في اطمئنان، وبدأ تجار دمشق يرسلون قوافلهم من جديد إلى الساحل، كما توافد المزارعون المسلمون بمنتجاتهم إلى أسواق عكا. وحدث أن وصل في هذه الآونة محاربون صليبيون جدد في صيف عام 1290 م يمثلون شراذم من رعاع الفلاحين والمتعطلين قدموا من لمبارديا وتسكانيا ممن تطلعوا إلى المغامرة وعرفوا بالعربدة والإخلال بالنظام. فأثاروا بمقدمهم الارتباك والفوضى في عكا، وأخذوا يهاجمون تجار المسلمين، وانطلقوا في الشوارع يذبحون كل من وجدوه منهم، وعندما بلغت أنباء هذه المذابح الوحشية مسامع السلطان، غضب وصمم على القضاء نهائياً على إمارات الإفرنج في الشام (رنسيمان، ج3 ص692)، ثم أصدر أمره بتجهيز الجيوش وآلات الحصار، ولكنه توفي في سنة 1290 وخلفه ابنه الأشرف خليل الذي وعد بإنفاذ الحملة التي أعدها أبوه.
   رأينا أن الصليبيين نقضوا الهدنة ورفضوا أن يسلموا المتسببين في ذلك الأمر الذي حمل السلطان المنصور قلاوون على القيام بتعبئة جيوشه بهدف القضاء على بقايا الإمارات الصليبية في الشام، ولكنه توفي قبل أن يشرع في إنفاذ الحملة، وعندما اعتلى ابنه الأشرف خليل دست السلطنة قضى الشهرين الأولين في توطيد ملكه ثم تحرك على رأس حشوده في مارس 1291 وقد زودها بكل آلات الحصار والقتال، ووصلت قواته أمام أسوار عكا في 5 أبريل التي وجه إليها أولى ضرباته، ونجح في الاستيلاء عليها في 17 جمادى الآخر سنة 690 ه / 18 مايو سنة 1291 م. ويسجل سقوط عكا المركز اللاتيني المنيع نهاية استعمار الإفرنج للشام، وقاتل فرسان الداوية والاسبتارية قتالاً ضارياً، ولكن مواقعهم الأخيرة لم تلبث أن سقطت في أيدي المسلمين في أقل من ثلاثة أشهر، وفكر الداوية في نقل مركز المقاومة إلى صيدا حيث لجأ إليها نفر من الداوية نجوا من مذابح عكا مع قائدهم ثيبوت جودان وطائفة قليلة من المدنيين، وحمل ثيبوت معه كنوز الداوية وأموالهم وذخائرهم. واختير ثيبوت في صيدا مقدماً لجماعة الداوية بدلاً من المقدم جيوم دي بوجيه الذي سقط صريعاً في الهجوم الأخير الذي شنه المسلمون على عكا في 18 مايو. وبينما كان المماليك يدمرون عكا ويخربون أسوارها وتخصيناتها ويسوونها بالأرض، كانت قوات الأشرف خليل بقيادة الأمير علم الدين سنجر الشجاعي تسير نحو صيدا، وفكر الداوية بادئ ذي بدء في الدفاع عن صيدا التي كانت جزءاً من أملاكهم، وكان المقدم الجديد ثيبوت جودان قد تحصن فيها ومعه كنوز الداوية، وتجمع فيها الناجون من مذابح عكا. وعندما وصلت طلائع القوات المملوكية خرج الأهالي من المدينة وتحصنوا مع الداوية في قلعة البحر، ومن هناك ركب ثيبوت جودان سفينة حملته إلى قبرص بعد أن وعد إخوانه والأهالي المحاصرين بأنه سيعود بإمدادات تعينهم على الصمود، وطال انتظار المدافعين عن القلعة لهذه الإمدادات دون جدوى، في الوقت الذي أخذ علم الدين سنجر يقيم رصيفاً بين البر والقلعة للوصول إليهم، وعندئذ يئس المدافعون عن القلعة والحامون لها من الداوية والأهالي من قدوم أي مدد، وركبوا في ليلة حالكة الظلام سفنهم إلى قبرص، وعلى أثر ذلك استولى المماليك على قلعة البحر المهجورة في 15 رجب سنة 690 ه / 14 يوليو 1291 ودمروا تحصيناتها (رنسيمان، ج3 ص 711  Deschamps, p. 227 – Grousset, t. III, p. 762) .
   وفي فتح صيدا على أيدي المماليك يقول المقريزي: " وفتحت صور وحيفا وعثليث وبعض صيدا بغير قتال، وفر أهلها خوفاً على أنفسهم، فتسلمها الأمير علم الدين سنجر الشجاعي في بقية جمادى الأول، فقدمت البشائر بتسليم مدينة صور في 19 جمادى الأول، وبتسليم صيدا في العشرين منه، وأن طائفة من الإفرنج عصوا في برج منها (المقصود به قلعة البحر) فأمر السلطان بهدم صور وصيدا وعثليث وحيفا" (المقريزي، السلوك، ج1 قسم 3 ص765، 766). وفي موضع آخر يقول: "وكان الأمير سنجر الشجاعي نائب الشام قد سار في رابع رجب إلى صيدا، وحاصر البرج حتى فتحه في 15، وعاد إلى دمشق يوم رحيل السلطان منها" (المصدر نفسه، ص769 – ابن كثير، ج13 ص321 – ابن الفرات، تحقيق الدكتور قسطنطين زريق، ج8 بيروت 1939 ص113،121).
   ويشير شيخ الربوة الدمشقي إلى أن فتوح الأشرف خليل لعكار وعثليث وحيفا واسكندرونة وصور وصيدا وبيروت وجبيل وأنفة والبترون وصرفند استغرقت 47 يوماً (شيخ الربوة الدمشقي، كتاب نخبة الدهر، ص213). ويجمع مؤرخو العرب على أن السلطان الملك الأشرف خليل أمر بهدم هذه المدن جميعاً بعد أن دخلتها جيوش المسلمين، فهدمت (ابن كثير الدمشقي، ج13 ص321 – أبو الفداء، المختصر، ج7 ص32 –ابن الفرات، ج8 ص121 – المقريزي، الخطط، ج3 ص176 – الدويهي، ص151). وهكذا تحولت صيدا مرة أخرى إلى خرائب، ومن المعروف أن سلاطين الأيوبيين (سبق للملك المعظم عيسى بن الملك العادل صاحب دمشق أن أرسل الحجارين والنقابين إلى القدس، فخرب أسوارها خوفاً من أن يقصدها الإفرنج فلا يقدر على منعهم "أبو الفداء، ج6 ص18". كذلك خرب المسلمون أسوار دمياط في شعبان سنة 648 ه لما حصل للمسلمين عليها من الشدة مرة بعد أخرى وأسسوا مدينة في البر سموها المنشية "نفس المصدر، ص88". وعندما افتتح قلاوون مدينة طرابلس أمر بها فهدمت ودكت إلى الأرض سنة 688 "نفس المصدر ص29"، ونلاحظ أن مدينة صيدا خربت أكثر من مرة في العصر الأيوبي منذ أن استولت عليها قوات صلاح الدين في سنة 582) والمماليك كانوا يحرصون على تدمير التحصينات الساحلية بوجه خاص حتى لا يهيئوا المجال بتركها سليمة دون هدم للصليبيين معاودة الاستيلاء عليها والتحصن فيها من جديد، وهو تقليد بدأه عمرو بن العاص عندما خرب سور الإسكندرية بعد أن عانى كثيراً من الصعاب في استردادها سنة 25 ه من أيدي الروم الذين كانوا قد انتقضوا على المسلمين وتحصنوا فيها (البلاذري، ج1 ص260 – ابن عبد الحكم، فتوح مصر والمغرب والأندلس، تحقيق الأستاذ عبد المنعم عامر، القاهرة، 1961 ص235 – المقريزي، ج1 ص260 – السيوطي، حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة، طبعة مصر 1321 ه . ج1 ص78). وكان الأشرف خليل إذ أمر بهدم أسوار هذه المدن مدفوعاً بخوفه من أن يعاود الصليبيون الذين فروا إلى جزيرتي قبرص ورودس وضع أقدامهم على الساحل. وعندما أعيد بناء مدينة طرابلس في نيابة أسندمر كرجي اختيرت المدينة الجديدة في موضع داخلي لتصبح مدينة ذات حامية، وحدث نفس الشيء بالنسبة لصيدا، فقد وكل الأشرف بحراسة الساحل من زاوية طرابلس حتى صيدا إلى بعض عشائر التركمان والمسلمين تحوطاً من عودة الإفرنج إلى هذه الجهة واستئناسهم نصارى لبنان، فتكون تلك العشائر فاصلة بين الإفرنج والنصارى الوطنيين (الدبس، ج6 ص308  Ira Marvin, p. 16 – Lammens, t. II, p. 17 ).

   وأول من تولى على صيدا وبيروت في أول الفتوحات الأشرفية والٍ يقال له الدمياطي (صالح بن يحيى، ص104)، ثم توالى عليها الولاة بعد ذلك.



وضع صيدا الإداري والاقتصادي
   أصبحت صيدا منذ أن دخلتها جيوش المماليك ولاية جليلة يتولاها أمير طبلخاناه أحياناً، وأمير عشرة أحياناً أخرى، وكان بقلعتها بحرية وخيالة وكشافة وطوائف من المستخدمين (القلقشندي، صبح الأعشى ج4 ص202 Gaudefroy – Demombynes, La Syrie a l’epoque des Mamelouks, Paris, 1923, p. 183 ). وكانت ولاية صيدا من أعمال نيابة دمشق، شأنها في ذلك شأن بيروت، وكانت ولاية صيدا نفسها تضم أعمالاً واسعة (شيخ الربوة الدمشقي، نخبة الدهر، ص201)، وقد أشار غرس الدين خليل بن شاهين الظاهري إلى أهمية صيدا في عصره (عصر المماليك الشراكسة)، فذكر أن مدينة صيدا ميناء دمشق "وهي مدينة لطيفة على شاطئ البحر المحيط، ترد إليها المراكب، ولها إقليم به ما ينوف عن مائتي قرية، وهي أيضاً من معاملة دمشق" (غرس الدين خليل بن شاهين الظاهري، كتاب زبدة كشف الممالك وبيان الطرق والمسالك، تحقيق بول رافيس، باريس 1894 ص47).
   وكان والي صيدا يتولى منصبه بموجب توقيع بولايته يصدر من نائب السلطنة بدمشق، وقد أورد القلقشندي نص نسخة منه تضمنت أسباب اختياره لذلك المنصب والأعباء والمهام الملقاة على عاتقه، كالتمسك بالعدالة والحرص الزائد في تلقف الأخبار، وتفقد أحوال إقليم صيدا بره وبحره، واعتماد مصالح السكان، وإدارة الشؤون المالية والديوان، والجمع في المعاملة بين سياسة اللين والشدة. وفيما يلي نص هذه النسخة: "رسم بالأمر العالي – أنفذه الله في الأقطار، ونجم بولاته أيام الأوطان والأمطار، وأجرى بشكره سفن الركائب وركائب السفن إذا سف وإذا طار، أن يستقر فلان… ركوناً إلى عزمه وحزمه، وسكوناً إلى اهتمامه الذي حكم فيه، والاختبار بعلمه، وعلماً أن للولايات به الانتفاع، ولحصونها الامتناع والارتفاع، وأنه إذا ولي رعى، وإذا أقوي كان أعصم راع، وإذا فكر في الرأي ووقب في المهم كان نعم الشجاع. فليباشر ولاية عمله، ناهضاً بأعبائه، رافعاً بالعدل لأرجائه ورجائه، حريصاً على طيب الأخبار المنتشرة من كافور صبحه ومسك مسائه، وليتفقد أحوال بره وبحره، ويتيقظ لذلك البر وجهره، وذلك البحر وسره حتى يتحدث البحر عن عزمه ولا حرج، ويسير ذكره كنسيم الروض لا ضائع الصنع ولكن صنائع الأرج، ويعتمد مصالح النواحي وسكانها، والأموال وديوانها، والجهات وضمانها، ونجوم التقسيطات في البلدة، وتحرير ميزانها، ويجمع بين اللين والشدة لسياسة لا يخرج بها الرأي عن إبانها، وتقوى الله تعالى هي العمدة فعليها يعتمد، وعلى ركنها يستند، حتى تجعل له على المصالح أيداً، وحتى تثني نحو الثناء عليه عمراً وزيداً، وحتى تجعل له بأساً في الأعداء يكيد كيداً، وحسن ذكر في البلد يصيد صيداً" (القلقشندي، صبح الأعشى، ج12 ص333 – 334 ).
   ولم يصلنا من أسماء ولاة صيدا في العصر المملوكي إلا عدد قليل جاء ذكرهم عرضاً في صفحات المصادر، على أن ولاة صيدا كان معظمهم من أمراء الغرب من بني بحتر، وكانوا يجمعون عادة بين ولاية بيروت وصيدا، وفيما يلي بعض أسماء هؤلاء الولاة:
1-               الدمياطي: وقد تولى بيروت وصيدا بعد فتح صيدا على يد الأشرف خليل في سنة 690 ه، ويبدو من اسمه أنه ينتسب إلى مدينة دمياط التي كانت على اتصال وثيق بصيدا في العصر الإسلامي، وقد عهد إليه الأمير علم الدين سنجر الشجاعي بعمارة الجسر الخراب القائم على نهر الدامور أثناء مروره ببيروت. ولكن هذا الجسر سرعان ما تخرب بعد عمارته بثلاث سنوات على أثر سيل جارف، وظل خرباً إلى أن قام الأمير سيف الدين تنكزبعمارته، فعمر، ثم تخرب من جديد بسبب السيول التي جرفت مياهها معظم حجارته إلى البحر، كما انهار جانبه القبلي. وعمد والي صيدا ناصر الدين الحسين في سنة 745 ه إلى الاستعانة في ترميم وإعادة بنائه بمهندس طرابلس المشهور في الأعمال الساحلية أبي بكر بن البصيص البعلبكي (صالح بن يحيى، ص103، 104).
2-               سيف الدين تنكز: وقد سبق أن رأيناه يتولى ترميم جسر نهر الدامور فيما يقرب من سنة 694 ه / 1294 م.
3-               الأمير ناصر الدين الحسين بن سعد الدين خضر: كان والياً على الغرب بما فيه صيدا، وقد اشترك ناصر الدين في الحملة التي توجهت إلى الكرك في سنة 743 ه / 1342 م لمحاصرة السلطان الناصر أحمد بن الناصر محمد بن قلاوون (نفس المصدر، ص100).
4-               الأمير بهاء الدين داود بن علم الدين سليمان ت803: اشترك مع تنكز بغا نائب بعلبك وكاشف على صيدا وبيروت في الحملة التي جردها السلطان الملك الناصر فرج بن برقوق لمحاربة تيمورلنك عندما غزا بلاد الشام في سنة 803 ه / 1400م، وقد فقد الأمير بهاء الدين داود في جملة المفقودين عندما فرت جيوش السلطان قبل لقاء جيوش تيمورلنك (نفس المصدر، ص219).
5-               الأمير عساف الحبشي: كان نائباً على بيروت وصيدا في زمن السلطان محمد بن قايتباي وقد قتل في 15 ذي الحجة سنة 901 ه ( ابن طولون، مفاكهة الخلان في حوادث الزمان، تحقيق الدكتور محمد مصطفى، القاهرة، 1962، ج1 ص167، 367 – الدبس، ج6 ص56) في نفس العام الذي ارتقى فيه السلطان الناصر محمد أبو السعادات ابن قايتباي على دست السلطنة، وكان الأمير عساف المذكور من مشاهير الولاة.
6-               ناصر الدين محمد بن الحنش: كان والياً على صيدا والبقاعين في زمن السلطان قانصوه الغوري منذ سنة 917 ه / 1511 م حتى سنة 922 ه / 1516 م، وتسجل هذه السنة خروجه على السلطان العثماني سليم الأول ونيذه لطاعته، فاستولى جان بردي الغزالي نائب الشام على صيدا، وفر ابن الحنش. وتمكن جان بردي من القبض على العصاة أتباع ابن الحنش وعلى رأسهم الأمير زين الدين وأمير قرقماس والأمير علم الدين سليمان ثم أرسلهم إلى صور، فقلعة صفد فقلعة دمشق ومنها إلى قلعة حلب. ولما قتل ابن الحنش بعد ذلك أطلقهم الغزالي (الشدياق، ج1 ص293، ج2 ص303).
7-               محمد ابن قرقماس: تولى على بيروت وصيدا والتقدمة على البقاع من قبل السلطان سليم (ابن طولون، قسم 2، القاهرة 1964، ص7).
***
   وكانت صيدا من الناحية الإدارية أيضاً، رغم كونها مجرد ولاية، من أهم مراكز نقل الثلج من دمشق إلى دمياط بحراً في العصر المملوكي، وكان الثلج ينقل بعد وصوله إلى دمياط "من مراكب بحر الملح إلى مراكب بحر النيل، ثم يأتي به إلى بولاق، ثم ينقل على البغال إلى الشرابخاناه الشريفة، وتخزن في صهريج" (ابن شاهين الظاهري، زبدة كشف الممالك، ص117)، وظلت صيدا مركزاً رئيسياً لشحن الثلوج إلى مصر حتى أيام السلطان الملك الظاهر برقوق، وفي عهده استخدم الطريق البري بدلاً من البحري، وأصبح الثلج يحمل من دمشق براً على الهجن في الفترة ما بين حزيران إلى آخر تشرين الثاني ما يقرب من إحدى وسبعين نقلة، وكان يجهز مع كل نقلة بريدي بيده تذكرة وبرفقته ثلاّج خبير بحمله ومداراته (ابن شاهين، ص118).
   كذلك كانت صيدا مركزاً هاماً من مراكز بطائق الأبراج الخاصة بالحمام في العصر المملوكي، وكان الخلفاء الفاطميون أول من اعتنوا من حكام مصر بالحمام الزاجل، وبالغوا في ذلك حتى أفردوا له ديواناً وجرائد بأنساب الحمام، ثم نهج نور الدين زنكي نهجهم في سنة 565 ه / 1169 م، وكانت بصيدا عدة أبراج ومراكز حمام لها برّاجة وخدام متخصصون، وأقفاص وبغال للتدريج، ومرتبات وأرزاق، لتصدير الأخبار متصلة ساعة بساعة، مع دمشق من جهة وبيروت وتربلة وطرابلس من جهة ثانية (نفس المصدر، ص117).
   ولما كانت صيدا مركزاً لبطائق الأبراج الخاصة بالحمام، كانت أيضاً مركزاً بريدياً هاماً، فكانت تمتد من دمشق عدة طرق بريدية تصل إلى صفد وجزين وصيدا وبعلبك. أما طريق صيدا فكان ينتهي إلى بيروت، في حين كان طريق بعلبك يمر بالزبداني وبورا وينتهي ببعلبك (نفسه، ص119، 120  Ira Marvin, Muslim, p. 12 – Gaudefroy – Demombynes, op. Cit. P. 246)  ، وفي كل من هذه المواضع كانت تقام محطات لا تعدو أن تكون خانات ونزل للبريديين. ومن أمثلة الخانات الباقية خان دنون الواقع بين دمشق ودرعة، ويتوسط الخان صحن فسيح تدور به بائكة تنفتح على الصحن، وتطل عليها أروقة ذات قبوات متصلة، ويكتنف جدران الخان في الأركان أبراج نصف أسطوانية بينما يتوسط الجانب الغربي برج نصف دائري. ويرجع إنشاء هذا الخان إلى السلطان الملك الأشرف شعبان الذي أقامه في سنة 778 ه، وباشر البناء فيه علي بن البدري "مهندس الشام" (J. Sauvaget, un relais du Barid Mamelouk, dans Melanges Gaudefroy- Demombynes, 1935, Le Caire, p. 24 – 25) .
   اضمحلت صيدا في عصر المماليك اضمحلالاً يشهد به الرحالة والجغرافيون الذين كتبوا عنها في هذا العصر، وترجع أسباب هذا الاضمحلال إلى ما يأتي:
1-               الضربات الشديدة التي تعرض لها العمران الصيداوي منذ أن استردها صلاح الدين يوسف بن أيوب في سنة 583 ه حتى بداية العصر المملوكي، ومن المعروف أن هذه الضربات كان يوجهها إليها إما المسلمون في الفترة التي خضعت فيها صيدا للصليبيين، أو الصليبيون في الفترة التي خضعت فيها صيدا للمسلمين، وفي حالة واحدة تعرضت المدينة لغارة تأديبية انتقامية شنها المغول بقيادة كيتبغا نويان، وقد أدت هذه الضربات المتتالية إلى تدمير الأسوار وانحسار العمران وتقلصه بسبب نزوح كثير من سكان المدينة عنها إلى مدن ساحلية أكثر حصانة ومنعة مثل صور وعكا، أو إلى مدن داخلية أكثر أمناً مثل دمشق وبعلبك.
2-               غارات الجنوية والقبارصة على ساحل صيدا منذ طليعة القرن الثامن الهجري، وسنتحدث عن هذه الغارات بالتفصيل عندما نتعرض لدراسة الأحداث الهامة في صيدا في العصر المملوكي.
3-               الفناء الكبير الذي نكب به العالم فيما بين عامي 742 ، 751 ه / 1341،1350 م ، وبلغ ذروته في الأقطار الإسلامية في سنة 749 ه / 1348 م ،وقد كانت صيدا وسائر مدن الساحل بوجه خاص من أكثر المدن الشامية تعرضاً لهذا الوباء، ويشير ابن الوردي إلى ذلك بقوله: "ثم طوى (الوباء) المراحل، ونوي أن يحلق الساحل، فصاد صيدا وبغت بيروت كيدا" (ابن الوردي، تتمة المختصر، ج2 ص498).
4-               عدم صلاحية مينائها الشمالي لإرساء السفن الكبيرة بسبب كثرة الرواسب الرملية، وعدم اهتمام الولاة بتطهير هذا الميناء وتوسعته، وقصر استخدامه على سفن الصيد والمراكب التجارية الصغيرة (Rey, les Colonies franques de Syrie, p. 520) الأمر الذي أدى إلى حصر النشاط التجاري الخارجي في صيدا إلى أضيق نطاق، واقتصاره على المجال الداخلي.
   وهكذا تضامنت هذه العوامل جميعاً فيما بينها على اضمحلال صيدا عمرانياً وبالتالي اقتصادياً، وكان وصف الإدريسي لها في سنة 548 ه / 1154 م آخر وصف لها يعبر عن عظمتها، إذ أن ما وصفها به الرحالة والجغرافيون في الفترات اللاحقة كان يعبر عن طبيعة هذا الاضمحلال الذي شملها كما شمل غيرها من مدن الساحل، في الوقت الذي ظهرت فيه بيروت بصفة خاصة كميناء رئيسي لبلاد الشام (منير الخوري، ص185): فأبو الفداء الذي وصف صيدا في سنة 721 ه / 1321 م يقول: "تقع على البحر وهي مدينة صغيرة حصينة" (Marmardji, p. 126) ، ووصفها ابن بطوطة بعد ذلك بعدة سنين بقوله: " وهي على ساحل البحر حسنة كثيرة الفواكه، يحمل منها التين والزبيب والزيت إلى مصر"(ابن بطوطة، رحلة ابن بطوطة، طبعة صادر، ص62). وذكر الرحالة لودولف السدهيمي الذي زارها فيما يقرب من هذه الفترة، بأنها "مدينة ساحلية تحيط بها أبراج وأسوار مرتفعة ولكنها مهجورة" (Frederick, p. 103) . وذكر القلقشندي أنها مدينة تقع على ساحل بحر الروم ومزودة بقلعة منيعة لا ترام (القلقشندي، ج4 ص111). أما جون بولونر الذي زار الأراضي المقدسة في عام 1421 – 1422، فقد أشار إلى أنها "مدينة فينيقية تشهد خرائبها في الوقت الحاضر بعظمتها، وخارج أطلالها بنيت مدينة أخرى صغيرة حقاً ولكنها حصينة، وينقصها الرجال للدفاع عنها" (Frederick, p. 103) . وعندما زار طافور مدن الساحل اللبناني لم يذكر اسم صيدا وإنما ذكر الرملة ويافا وبيروت وصور وعسقلان وعكا(طافور، رحلة طافور في عالم القرن الخامس عشر الميلادي، ترجمة الدكتور حسن حبشي، القاهرة 1968 ص53).
   ونستنتج مما سبق ذكره أن صيدا لم تبق طويلاً بدون أسوار منذ أن افتتحها المسلمون في سنة 690 ه وخرب الأمير علم الدين سنجر الشجاعي أسوارها وتحصيناتها، فقد أعيد بناؤها من جديد وجددت تحصيناتها، وأضيف إليها في زمن لاحق، وهو أمر أشار إليه أبو الفداء وابن بطوطة ولودولف والقلقشندي وجون بولونر ضمناً في وصفهم للمدينة، وسنتحدث عن آثار التحصينات الإسلامية عند تعرضنا فيما بعد لدراسة مظاهر اهتمام المماليك بتحصين صيدا.
   وظلت صيدا على الرغم من تجديد بناء حصونها وأسوارها مدينة قليلة الأهمية، وعندما زارها سنديس في سنة 1610 / 1611 م كانت تبدو مدينة فقيرة (Frederick, p. 104) ، ولم تنتعش صيدا وتتألق من جديد إلا منذ أن اتخذها الأمير فخر الدين المعني الثاني قاعدة لإمارته على النحو الذي سنشير إليه بعد ذلك.
   كانت صيدا في العصر الفاطمي مدينة زاهرة عمرانياً واقتصادياً، وكان أهلها من اليسار والثراء بحيث كان في إمكانهم شراء حرياتهم واستقلالهم بالأموال التي يبذلونها سواء لطغتكين أو لبلدوين، وليس من شك في أن هذه الثروات الطائلة التي كانت تتدفق على مدينة ذات ميناء أو بمعنى أصح ذات موانئ ثلاث لا بد أن يكون مصدرها قيام نشاط تجاري واسع النطاق. غير أن حياة صيدا الاقتصادية لم تلبث أن مرت بتجربة قاسية إذ تأثرت بالنكسة العمرانية التي أصابتها منذ أن أخذت قوات المسلمين والصليبيين تتناوب حكمها أكثر من ثلاث مرات، وفي كل مرة كانت أسوار المدينة ومنشآتها تتعرض للتدمير والتخريب الأمر الذي أثر على الوضع الاقتصادي في المدينة، فساعد على تدهور التجارة والزراعة والصناعة منذ العهد الصليبي حتى الفتح العثماني. ومع ذلك فإن اضمحلال عمران صيدا لم يتضح تماماً في زمن ابن بطوطة الذي يذكر أنها كانت تصدر التين والعنب وزيت الزيتون. ونستنتج مما كتبه جاك دي فتري في القرن الثالث عشر الميلادي أنه كانت تتوافر في صيدا أشجار الفاكهة والكروم وغابات وحقول وأرض محروثة. ويحدثنا بولونر عن زراعة قصب السكر والكروم الجيد Frederick, p. 123)) . ولا شك أن الفاكهة ولاسيما الحمضيات كانت وما تزال تشكل الثروة الزراعية الرئيسية في صيدا المملوكية، وكانت هذه الفواكه تصدر عادة إلى مصر. وبالإضافة إلى هذه المنتجات الزراعية المحلية لعبت صيدا دور الوسيط التجاري-ولكن في نطاق محدود-بين الشام ومصر، فكانت تقوم بتصدير منتجات المناطق السورية الداخلية، فمن دمشق نفسها كانت ترد إلى صيدا الأواني الخزفية والتحف الزجاجية والمعادن والحلل الموشية والمنسوجات الحريرية الفاخرة والشموع وبعض الدواب كالغنم والخيول (Ira Marvin, pp. 17-18) .
   أما الصناعات فقد تدهورت نتيجة لتدهور التجارة، واقتصرت الصناعات فيها على صناعة السكر (نقولا زيادة، مدن عربية، بيروت 1965 ص176)، كذلك استمرت صيدا في إنتاج الزجاج والخزف وهما صناعتان تقليديتان اشتهرت بهما عبر التاريخ. على أن أهم صناعات صيدا التي اشتهرت بها في العصر الوسيط هي صناعة المنسوجات الحريرية، ولكن جارتها صور فاقتها في هذا المجال، وعرفت أوروبا المنسوجات الحريرية المصبوغة بالأرجوان الصوري التي كانت تصدرها صور في العهد الصليبي إلى الآفاق، وكانت سفن الجنوية والبنادقة التي تحمل  حجاج المسيحية من أوروبا إلى الأراضي المقدسة تعود موسقة بالمنسوجات الحريرية والتفتا الدقيقة التي كان الغرب يشتد في طلبها من صور وصيدا، وطغى استعمالها إلى دور البورجوازية والمصليات الكنسية، وكانت الملونات الحريرية تغطي جدران المصليات، وأخذت أعلاماً وأغطية للأسرة، أو شطفات تتدلى على النوافذ في أيام الاحتفالات والأعياد. ومع ذلك فقد كسدت هذه الصناعة نتيجة لهجوم المغول على صيدا، وتخريب قلاوون لطرابلس وتدمير الأشرف خليل لكل من صيدا وصور، وتوقف نشاط هذه المدن اللبنانية في هذا المجال قرابة قرن من الزمان(Maurice Chehab, Role du Liban dans l’histoire de la Soie, pp. 22-26) .

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق