الصفحات

صيدا الفينيقية:غرفت من تاريخ الحضارات كنوزًا وشيدت قلاعًا وقصورًا ومعابد

صيدا الفينيقية:غرفت من تاريخ الحضارات كنوزًا وشيدت قلاعًا وقصورًا ومعابد 

ناديا الياس
بيروت ـ «القدس العربي»: إذا كنت من لبنان ولم تعرف مدينة صيدا فأنت غافل عن الوطن والتاريخ، وإذا كنت سائحاً ولم تزرها فانه قد فاتك الكثير الكثير لما لهذه المدينة من غنىً تراثيّ وحضاري وسياحيّ، كيف لا وهي تعتبر من أقدم مدن العالم شهرةً بتاريخها والشاهد على ذلك مرفأها وقلعتها وأماكنها الأثرية العريقة الضاربة في عمق التاريخ.
فصيدا التي عرفت «بصيدون» الفينيقية ساهمت في نشر الأبجدية والمعرفة عبر البحر المتوسط إلى بلاد اليونان، وهذا ما تؤكدّه روايات مؤرخي اليونان انهم عرفوا الهجائية عن طريق الصيدونيين الذين جاؤوا إلى بلاد اليونان وصحبة (قدم) أو قدموس حوالي سنة 1580 ق.م والذي حمل معه الحروف الهجائية وبنى مدينة تيبه وتملكها. كما بقيت مفتاح وبوابة الجنوب اللبناني وصلة الوصل بين الشرق والغرب، وعبر بحرها تمّ اكتشاف الصباغ الأرجواني آنذاك، وفيها أجمل الأماكن الأثرية التي عندما تزورها لأول مرّة تترك فيك شيئاً منها. كما هي مدينة العيش المشترك بين كل فئات الوطن وأطيافه.
موقعها وتسميتها وتاريخها
صيدا العريقة التي تعّد من المدن الأوائل التي انشأها الفينيقيون حوالي سنة 2800 ق.م وأسّسها ابن كنعان البكر صيدون وسمّيت باسمه وفقاً للكاتب الفرنسي جاك نانتي هي من أكبر المدن الجنوبية على الإطلاق وتقع على ساحل البحر المتوسط في جنوب لبنان وتبعد عن العاصمة بيروت حوالي 45 كيلومتراً وعن صور 40 كيلومتراً.
اسمها مشتق ّمن كثرة السمك في شواطئها إذ كان أهلها الأقدمون يعملون كصيادي سمك، كما لها العديد من التسميات التي أطلقت عليها منها «صيدون» باللاتينية واليونانية و»صيدو» بالعبرانية.
امّا تاريخياً فبدأ يحكى عن مدينة صيدا منذ الألف الأولى ق.م ومجيء الفينيقيين إليها يعود إلى الألف الثالثة ق.م وهذا ما أثبتته عمليات التنقيب التي بدأت عام 1914 على يد الفرنسيين واستمرّت حتى منتصف الستينيات، كماعرفت صيدا مراحل تاريخية بدءاً من الرومان والبيزنطيين والأمويين والعباسيين فالفاطميين والصليبيين وغيرهم وصولاً إلى العثمانيين وزوال حكمهم مع الحرب العالمية الأولى ثمّ الإنتداب الفرنسي، وعصر الإستقلال حتى يومنا هذا بعد الاجتياح الإسرائيلي الذي دمرّ جزءاً لا يستهان به من حضارة وتراث وتاريخ المدينة.
وتزامناً مع هذه الحقب والحضارات المتلاحقة التي شهدتها المدينة، عرفت صيدا ازدهاراً في أواخر الألف الثانية واشتهرت كمركز للصناعة والتجارة وكذلك نمت وشهدت ازدهاراً مماثلاً في أوائل القرن التاسع عشر حتى أصبحت وقبل الحرب العالمية الأولى ميناء البلدان اللبنانية والسورية على حدٍّ سواء.
أمّا أهمّ مراحل التاريخ الذي عاصرته مدينة صيدا، والتي تمّ التعرف عليها من خلال الطبقات الأرضية التي أظهرتها البعثة البريطانية التي تابعت بعد الفرنسيين أعمال التنقيب والبحث توّفر الحقبات التالية:
- 6 طبقات من الصخر وصعوداً ترقى للألف الثالثة (3000 ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد) وتسمى بالعصر البرونزي القديم.
- الحقبة الثانية التي تتألف من 8 طبقات وقد سمّيت بالعصر البرونزي المتوّسط والجديد وترقى إلى الألف الثانية (2000 الفين سنة قبل الميلاد).
- 5 طبقات وتعرف بعصر الحديد أو الفينيقي الفارسي وتعود إلى الألف الأولى ق.م.
- وجود طبقات إسلامية ورومانية أعلن عنها الباحثون عبر مواصلة عمليات الحفر وهناك عمليات أخرى بطيئة لكشف المزيد من الأدوات والأواني الذهبية والفضية والقمح والشعير والفخّار ومعدات حربية مدفونة تدل استعمالاتها على أصحابها والحقب التي كانوا موجودين فيها.
وفي العام 1963 إكتُشف في صيدا داخل مغارة في منطقة طبلون تسعة نواويس انتروبويد ذات هياكل مجّسدة من العصر الفينيقي اليوناني تعود إلى القرن الرابع قبل الميلاد، وقد وُجد تحت أحد هذه النواويس في قبرٍ محفور في الصخر، هيكل عظمي لإمرأة من القرن الخامس قبل الميلاد، يغلب ان تكون أميرة، عليها جميع حليها- تاج بديع من الذهب فوق رأسها وعقد من الذهب وأساور وحلق وخواتم من الذهب والحجارة الكريمة تفوق جميعها في دقة صنعها صناعة أمهر الصاغة ثم خلاخل في كاحليها، ومرآة على شكل حديث من المعدن المصقول، وحنجور من المعدن مليء بالكحل الحي صالح لأن تستعمله سيدة أنيقة في يومنا هذا، وأخيراً تمثال من الفخار على صورتها وعلى شكل حليها يظن أنه صنع على عجل يوم وفاتها.
اقتصاد وصناعة
اشتهرت صيدا بزراعة الحمضيات، على أنواعها من برتقال وحامض، التي شكّلت العامود الفقري لاقتصادها فضلاً عن زراعة الموز، كما تميّزت بزراعة القطن التي استمرّت حتى منتصف القرن التاسع عشر وقد ساهم في هذا الانماء الزراعي الذي شهدته المدينة موقعها المميّز على سهل ساحلي خصب التربة وغزير المياه وكثير الأشجار.
وكان لموقعها الساحلي المميّز وللشعوب التي سكنتها الأثر الايجابي الذي جعل ساحلها البحري مقصداً تجارياً يجمع معظم شعوب العالم من أعجميّ وعربيّ وفارسّي وتركيّ وغيرهم، كما ساهم في تنشيط تجارة الأخشاب وصناعة السفن واستخراج الصباغ الأرجواني لطلاء الأقمشة.
وإلى جانب صناعة السفن اشتهرت صيدا بانها كانت السبّاقة في صناعة الزجاج ولاسيّما الشفاف منه، وهذا ما أكّده المؤرّخون الذين عاصروا هذه المدينة التي أنشأ أهلها معامل لصناعة الزجاج على طول الخطّ البحرّي وصولا إلى مدينة الصرفند المشهود لها بجودة الصنع عالميا وقتئذ، كما تميزّت بصنع الآواني الخزفية والحفر والنقش وصبّ الذهب والفضة والمصنوعات المعدنية المختلفة، وهم أول من عني بتبليط الشوارع، وجعلوا لصناعة الفن شهرة واسعة وصلت إلى ما وراء البحار ولا تزال في متاحف أوروبا حتى يومنا هذا معروضات كثيرة لصناعات زجاجية صيدونية ملوّنة وجميلة. كما تميّزت صيدا بصناعة المأكولات الشهية ّوالحلويات المتنوعة وهذا ما جعل منها نقطة جذب سياحية مهمة.
معالمها الأثرية
تعتبر مدينة صيدا أثرية بامتياز نظراً لأهمية وحجم معالمها الأثرية العريقة التي لامست الاثنين والأربعين ومنها ما يعود إلى العصور الفينيقية المختلفة وأخرى إلى العقود المسيحية والعربية والصليبية وأبرزها: القلعة البحرية، القلعة البرية، الميناء ومرافئ الصيادين، الجامع العمري الكبير والكنائس وخان الإفرنج والحمامات الأثرية وخان الرز، خان الحمص، خان الشاكرية، منزل رياض الصلح والواجهة البحرية الفريدة ، وسنورد لمحة سريعة عن أبرز هذه المعالم ومنها:
- المدينة القديمة: تعتبر من أهمّ المدن العربية، فهي كفاس في المغرب وسوسة في تونس وصنعاء في اليمن، وهي منظّمة بطريقة سليمة تشقها الممرات من الشمال إلى الجنوب ومن الشرق إلى الغرب وتضّم في داخلها المساكن والأسواق والمعابد من جوامع وكنائس وكنيس واحد عدا عن الخانات والحمامات والزوايا والمدارس والمستوصفات والمقاهي وكل ما يحتاجه المواطن في حياته اليومية، وتحمي هذه الشريحة الإجتماعية قلعتان «البحرية والبرية» اللتان فقدتا سورهما الواقي من الغزوات والحروب.
-القلعة البحرية: شيدت قلعة صيدا البحرية في القرن الثالث عشر على جزيرة صغيرة لشاطىء صيدا شمالا وأقيمت على مراحل بين 1227-1291 تاريخ سقوط صيدا في يد المماليك وبناها الصليبيون الآتون من أوروبا على طريقة نظام القصور المحصّنة والتي كان يسكنها القادة الأوروبيون في العصور الوسطى ليحموا أنفسهم ضد أيّ عدو أو غزو خارجي، ويزين مدخل القلعة أحجار سود منحوتة، ويقع داخلها مسجد بناه الأشرف خليل‏ ‏بن قلاوون، وجدّده الأمير فخر الدين.
-القلعة البرية أو قلعة القديس لويس: والمعني به هو لويس التاسع ملك الفرنجة الذي قاد الحملة الصليبية السابعة، وأمر بترميم عدد كبير من القلاع وتحصينها ومن بينها قلعة صيدا التي تقع على قمة التل القديم الذي يشرف على المدينة من ناحيتها الجنوبية.
- تلة المريق إلى الجنوب من القلعة البرية يقع مرتفع اصطناعي يصل طوله إلى نحو 100 متر وارتفاعه نحو 50 متراً، وقد يكون تراكم بقايا اصداف المريق (الموريكس) وهي محار يستخرج منها الصباغ الأرجواني، لذلك أطلق عليها اسم تلة المريق.
- مرفأ صيدا الأساسيّ هو صغير نسبياً ويتألف من حوض واحد صالح للسفن الصغيرة التي لا تزيد حمولة الواحدة منها عن 1200 طن، ولسفن الصيد، وتمثل حركته 4 ٪ من مجموع حركة المرافئ اللبنانية. ويجري اليوم العمل على إنشاء حوض آخر في مرفأ صيدا وتطويره نظراً إلى الدور المهم الذي يمكن ان يلعبه. أما صيدون القديمة فكانت لها ثلاثة مرافئ هي الشمالي ويقع مكان الحالي، والجنوبي أو المصري ويقع جنوبي المدينة القديمة، والمرفأ الخارجي ويقع في الجزيرة قبالة صيدا.
- معبد أشمون: عام1855 اكتشف منقبون ناووساً للملك اشمون عزر الثاني، الإله الشافي، نقشت عليه بحروف فينيقية عبارة «بعل الصيدونيين» وهو يعود إلى القرن الخامس قبل الميلاد وقد بني في جوار نبع مهم ما زالت مياهه تجري شرق الموقع، وهو النبع الذي عرف في النصوص الفينيقية باسم عين يدل .
- خان الإفرنج يتألف هذا الخان من فناء داخلي مستطيل يتوسطه حوض مياه ويحيط به طابقان، الأرضي للبضائع والدواب والعلوي للنزلاء. وكان هذا الخان مركز النشاط التجاري وتحول فيما بعد إلى مقر للقنصل الفرنسي ثم مقرا للآباء الفرنسيسكان، وبعدها مأوى لليتيمات، أما اليوم وبعد ترميمه فقد اضحى مقرا للمركز الثقافي الفرنسي.
- متحف عودة للصابون: يقع في قلب السوق العتيق لصيدا، وقد تولى آل عودة ترميمه وفتحه أمام الزوار الراغبين في استعادة تاريخ صنع الصابون البلدي المعطر الفاخر في المدينة.
- قصر آل دبانة: يملك هذا القصر الذي يعود تاريخ بنائه إلى أيام الأمير فخر الدين المعني الثاني الكبير في أوائل القرن السابع عشر، السيد جورج دبانة. ولا يزال يحتفظ بطابعه الشرقي الجميل المزين بالزخارف الإيطالية من البندقية، ويعتبر من أجمل القصور القديمة.
أمّا ما يلفت الانتباه في صيدا أيضاً فهو المقابر التي تمّ العثور فيها على ناووس الملك الصيدوني اشمون عزر الثاني وهو موجود في متحف اللوفر، والمقبرة الثانية التي تقع تحت قرية الهلالية عثر فيها على نواويس رخامية شهيرة هي ناووس الاسكندر وناووس الليفي وناووس المرزبان وناووس الندابات وهي موجودة في متحف إسطنبول. وفي مقبرة عين الحلوة جنوب شرقي صيدا عثر على مجموعة من النواويس الرخامية وهي حاليا في المتحف الوطني في بيروت.
وتزخر صيدا وجوارها بعدد كبير من المساجد والكنائس التي تعود إلى عصور مختلفة ويحترمها المسلمون والمسيحيون واليهود على حد سواء وأهمها:
-مقام النبي صيدون كان يقع في البساتين في منطقة البرغوت وكانت تحيطه حديقة واسعة ويعتقد أنه كان في الأصل هيكلاً للإله الفينيقي صيدون ومن هنا تسمية المسلمين له بالنبي صيدون، بينما يزعم اليهود بأنه ضريح زبلون من أبناء يعقوب، ولا يوجد في الضريح ما ينبئ عن صحة نسبته (وتاريخ بنائه) وكان معظم زواره من اليهود وقلة من المسلمين.
– مقام النبي يحيي الذي يقع شرقي صيدا قرب منطقة الحارة، ومقام النبي شمعون الموجود في شارع رياض الصلح (جامع الشمعون) ومقام شرحبيل بن حسنة الذي يقع شمال شرق صيدا في منطقة بقسطه.
أما كنائس صيدا الأثرية فهي ثلاث إحداها للرّوم الأرثوذكس والثّانية للطائفة المارونية وهما داخل المدينة القديمة، والثّالثة للرّوم الكاثوليك وهي خارج سور صيدا القديم، في حيّ مار نقولا وتضّم في أسوارها غرفة مار بطرس وبولس التي زارها الرسولان في العام 58 للميلاد يوم كان القديس بطرس يبشر في انطاكيا، وهنا يختلف الرواة في تاريخ مروره بها، إذ أعلن الشيخ أحمد عارف الزين في كتابه «تاريخ صيدا» إنّ بولس الرسول مرّ بصيدا لتفقدّ شؤون المسيحيين وذلك حين ذهابه إلى روما، هذا وذكرت صيدا مرّات عدة في الكتاب المقدس في جزئيه القديم والجديد، وقد ورد ذكر مجيء السيد المسيح إلى مدينة صيدا في مواقع عدّة من إصحاح إنجيل لوقا ومرقس ومتي. وختاماً يقّدر سكان مدينة صيدا بنحو 120،000 نسمة ويبلغ عدد سكان المدينة المسجلين 89،152 نسمة، إضافة إلى نحو 50 ألفا من اللاجئين الفلسطينيين الذين يسكنون مخيم عين الحلوة الذي يشكل ضاحيتها الفقيرة.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق