الصفحات

أسواق صيدا القديمة.. رحلة الحنين إلى أيام زمان

أسواق صيدا القديمة.. رحلة الحنين إلى أيام زمان

صيدا لمن لا يعرفها تبعد عن بيروت جنوبا نحو 45 كلم، وهي «صيدون» الفينيقية في الزمن الذهبي لتاريخ حوض البحر المتوسط، وهي المملكة التي واجهت الإمبراطور ارتحششتا الثالث في أثناء الاحتلال الفارسي. ثارت عليه فأتاها بجيش وحاصرها، ولما وجد الصيداويون أن ارتحششتا مصمم على غزوهم وقهرهم فضّلوا الموت على السبي والأسر، فأغلقوا بوابات أسوارهم وأحرقوا جميع مراكبهم وأشعلوا النيران في المدينة واستسلموا للموت حرقا. هذا ما درسناه في كتاب التاريخ الذي روى أن أكثر من 40 ألف نسمة هلكوا في هذا الحريق الهائل. وهذا ما حرك خيالنا الطفولي لنستسلم إلى ملاحم وهمية، أين منها ما كتبه هوميروس في إلياذته؟
هذه الملاحم الوهمية كانت تدور في واحدة من أقدم مدن حوض البحر الأبيض المتوسط وأغناها، مساحتها 200 ألف متر مربع، تنبض بالحقب التاريخية والآثار، وكأن الشعوب القديمة أبت أن تندثر حضارتها من دون ترك بصمة في المكان، ابتداء بالكنعانيين إلى الفينيقيين واليونانيين والرومان والبيزنطيين والعرب والعثمانيين وصولا إلى الانتداب الفرنسي. كل هذه الحضارات رست سفنها في ميناء المدينة القديمة المجاورة للبحر، كأن موجه كان يستريح عند عتباتها. وكثير من القادة والتجار والفنانين أقاموا في بيوتها المشيدة من الحجر الرملي، والمبنية أسقفها على طريقة العقد، كذلك شوارعها الضيقة، يتسلل النور عبر فتحات تتخللها، وتربط أسواقها الشعبية المتخصصة بالحرفيات القديمة والمأكولات والحلويات على أنواعها، ولعل أشهاها «الملبن» المصنوع من النشا والسكر الناعم والمتدلي في حبال عقدها ثمار الجوز والمعلق عن محلات توارث أصحابها سر تحضيرها أبا عن جد، بحيث يصعب نسيان مذاقها ولو بعد عشرات السنين.
الواجهة الساحلية لهذه الأسواق تحتلها مقاهي رصيف شعبية، تتسلم منها نبض العمل بعد كل غروب، فيتجمع حول طاولاتها محبو الاستكانة لنبض تعب ساعات العمل والاسترخاء مع كوب شاي ونارجيلة أو بعض المرطبات والحلويات والمثلجات. أبعد قليلا تنتشر المطاعم، وأشهرها مطعم يملكه ابن صيدا الفنان فضل شاكر، وآخر لا يملك تجاهله لأن زبائنه يقفون في الصف سعيا إلى ساندويتش فلافل لا مثيل له على الأراضي اللبنانية، كما يقول كل من تذوق فلافل «أبو رامي». ويستطيع محبو الرفاهية أن يدللوا أنفسهم بزيارة استراحة صيدا السياحية التي تقع على الشاطئ مباشرة، وتتميز بهندستها المعمارية التراثية، وتقدم لزوارها أطباقا لذيذة وخدمة ممتازة. أما من لا يرغب في الجلوس في أحد المقاهي أو المطاعم فتكفيه النزهة على الرصيف البحري الذي أنشئ بحيث يتسع لأكبر عدد من المشاة.

أما «الداخل»، كما يقول سكانها وهم يرافقون الزوار ويكرمونهم، فهو عبارة عن شوارع ضيقة تضم أسواق الذهب والثياب والنجارين، وقد اشتهرت السوق الأخيرة بصناعة العلب الخشبية التي تقدم فيها الحلوى للملوك والسلاطين، وكانت تصدّر إلى الخارج، كما اشتهرت بصناعة الكراسي وتقشيشها والقباقيب والطاولات المستديرة الصغيرة ومناخل العجن وأسوار البساتين المحيطة بصيدا لحمايتها من غزو اللصوص. كذلك كان حرفيوه يصنعون صناديق خشبية لا يمكن للعروس أن تغادر منزل ذويها من دونها، تضع فيها جهازها وتزورها عشية العرس قريباتها ورفيقاتها ليتفرجن على الجهاز ويحكمن على المهر الذي تكشفه تكاليف الملابس المطرزة والبياضات وأدوات المطبخ. أما الصناديق المخصصة للأميرات فكانت من أغلى الأخشاب التي تحملها السفن بناء على طلب مسبق لتليق بالمستوى الرفيع لمن يقتنيها. واليوم لا يزال بعض الحرفيين البارعين مقصدا لسيدات يرغبن في صندوق من أيام زمان يستخدمنه كقطعة ديكور في صالوناتهن.

هذه الأسواق لا تزال تستقطب الزوار من محيط منطقة صيدا وصولا إلى عمق الشوف وعمق الجنوب، لما توفره من سلع ريفية ومواد غذائية بأسعار متهاودة، كذلك تجذب السياح من أنحاء العالم لجمالها وغناها. وتتوزع في دكاكين تنتشر على الجانبين، أبوابها الخشبية القديمة تم تجديدها وزينت ببعض النقوش، وذلك في إطار مشروع «الإرث الثقافي والتنمية المدنية» لترميم أسواق صيدا القديمة وتأهيل بنيتها التحتية والأماكن العامة فيها، وحماية المواقع الأثرية ودعم المؤسسات العامة المخوّلة الحفاظ على نتائج المشروع، كالبلديات والمديرية العامة للآثار والتنظيم المدني.
عملية التأهيل شملت مسارا يمتد 1,7 كلم ويبدأ في مرحلته الأولى من ساحة «بحر العيد» وما تبقى من «حمام المير»، بجانب خان الإفرنج، فساحة باب السرايا وجامع أبو نخلة ومسجد الكيخيا وحمام الشيخ، مرورا بمقهى الزجاج وانتهاء بمدخل القلعة البرية. أما المرحلة الثانية فتشمل مدخل القلعة البرية باتجاه حي الزويتيني وحارة الكنان وحمام الورد والجامع الكبير فساحة ضهر المير. والمرحلة الثالثة تشمل شارع الحمام الجديد مرورا بحارة عودة وسوق الذهب، فقصر دبانة والقلعة البحرية فخان الرز.
أعمال التأهيل تتضمّن ترميم عناصر الواجهات من جدران وأبواب وشبابيك وما إلى ذلك من واجهات فنية، إضافة إلى استكمال عناصر البنية التحتية كالإنارة العامة والكهرباء. والأهم أن كل هذه الأشغال أنجزت وفق أصول اتفاقية الترميم الفنية والتقنية، الصادرة عن منظمة «اليونسكو».
ولمن يريد صورة تقريبية عن هذه الأسواق نحيله إلى بعض الفيديو كليبات الغنائية التي وجدت فيها بيئة فنية مناسبة. أشهرها فيديو كليب «آه ونص» للفنانة نانسي عجرم.
تصنف مديرية الآثار في وزارة الثقافة اثنين وأربعين موقعا من المعالم الأثرية في هذه الأسواق، غالبيتها لا تزال موجودة، وتحديدا الدور الرحبة والواسعة عند أطراف هذه الأسواق التي تعود إلى المرحلتين العربية والعثمانية والمجاورة لبساتين الحمضيات والمأهولة حتى يومنا هذا بسكان من عائلات المدينة العريقة. أما البيوت العادية فتسكنها عائلات وفدت إلى المدينة واستأجرتها من أصحابها الذين فضلوا الخروج من «الداخل» باتجاه المناطق الأكثر حداثة، إلا أن هذه البيوت تجذب عددا كبيرا من الأجانب الذين يستغربون كيف يمكن لمن تسنح له فرصة الإقامة فيها ويتركها لشقق عصرية لا حياة تنبض من جدرانها، ولا تاريخ يحكي في عتمة الليل حكاياتها، ولا أشباح تهيم من قلاعها وقصورها وخاناتها وحماماتها ومعابدها ومساجدها وكنائسها.
ولا بد لمن يدخل هذه الأسواق من زيارة متحف الصابون، الذي يمكن الوصول إليه من مدخلين، أحدهما يطل على أسواق صيدا القديمة، والثاني الرئيسي يطل على شارع الشاكرية المخصص للمشاة. معمل الصابون هذا هو باكورة العمل الصناعي لعائلة عودة التي تملك أحد أهم المصارف اللبنانية، وقد حرصت العائلة على إعادة تأهيله، إضافة إلى مساكن عدة باتت نموذجا من منازل المدينة القديمة.
الجزء الأقدم لمعمل الصابون، حيث تقع الأحواض، يرقى إلى القرن السابع عشر على الأقل، ويمكن التعرف إلى المواد الأولية المستخدمة في التصبين وتقنيات التجفيف والتقطيع المتبعة لإنتاج الصابون الحرفي، فضلا عن استعراض طقوس الحمام. وتنتهي عملية التصنيع في قاعة العرض، حيث تتكدس مكعبات الصابون تلالا تتماوج تحت أضواء خافتة.
أما خان الإفرنج، وكما يدل اسمه، فكان شاهدا على الانفتاح التجاري للمدينة في عهد الأمراء المعنيين. شيد في عهد الأمير فخر الدين الثاني الذي أجرى أهم الاتفاقات التجارية مع إمارة توسكانا الإيطالية. الخان كان مقصد الرحالة والتجار الغربيين للاستراحة، وتحديدا الفرنسيين من مدينة مرسيليا الذين كانوا يحمّلون سفنهم بالبضائع لينقلوها عبر طريق الحرير إلى أسواق الشرق الأقصى، ويعودوا محملين بما تنتجه هذه الأسواق لبيعها في القارة الأوروبية. وقد استقطب الخان الفنانين التشكيليين الذين دوّنوا سيرته بالريشة والألوان الزيتية. ولا تزال أعمالهم تدل على التفاعل الاجتماعي بين الشرق والغرب في تلك المرحلة.
الخان تحول مع بداية التسعينات إلى مركز فني ثقافي حضاري تقام في قاعته الرئيسية المرممة معارض الرسم والتصوير والطوابع والمنحوتات، وتعقد فيه الندوات والحلقات العلمية. أما في الصيف فهو يستضيف العديد من الفرق المسرحية والموسيقية والفلكلورية ليعيد إلى هذا المكان حيويته.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق