صيدا.. أسواقها العتيقة إرثاً.. وحرفاً.. وتراثاً |
الأسواق الشعبية في صيدا القديمة
لكل مدينة تراث يميّزها عن غيرها، فصيدا مدينةٌ تلوّنت سماؤها بصبغة الجمال والبهاء، هي آيةٌ من آيات التراث القديم، لا يلبث الواحد منّا أن يطأها حتى يشعر بشيء من السحر، ذلك السحر الذي امتزجت فيه الروعة بالجمال، وما من زائرٍ دخل إلى المدينة وخرج منها، إلا وشعر بحنين يعتري حناياه، ولا تلبث الروح أن تبتعد عن أزقة الأسواق القديمة حتى تتوهّج شوقاً إلى لقياها مجدّداً..
مدينة صيدا التي كتبت على طريقتها تاريخها، حيث أعطى السوق العتيق مكانة مميّزة، ليس فقط ببريقه وأهميته، إنما بتلوّن هذا السوق القديم بمزاجية خاصة، ونكهته وبريقه، الذي يحفره الزائر في كتاب وصورة وحكاية، ليستكمل بعدها صُور حكايته، ويضاف للسوق قطعة فُسيفسائية معتقة بألوان، هي وليدة حركته الدائمة..
صيدا.. بين طياتها سر من أسرار السحر الكوني العجيب، تعجز البشرية عن تفسير الحنين الرهيب إليها، فها هي جدرانها تتلوّن بألوان التراث العتيق.. وها هي أزقّتها مجدولة بحِرف ومنازل ومحلات تشرئب داخلها الإثارة، في دكاكين حرفية، في زقاق السوق القديم المتعرج، المنقسم على أكثر من طريق تحمل كل منها إلى حرفة تارة، وإلى «خان الإفرنج» تارة أخرى، وتفوح منها حكاية الزمن التراثي طوراً، وها هي للمدينة مكانة سامية في نفوس الصيداويين والجنوبيين والزائرين، في قلب السوق تُكتب العديد من القصص، ولا بد لك أن تلحظ حجم الألفة بين سكانه، تعود إلى حميمية المكانة، فهي رمزٌ من رموز عز الآباء والأجداد والتاريخ في آن معاً..
«لـواء صيدا والجنوب» حط رحاله في أزقة وأسواق صيدا القديمة، وشاهد تفاصيل تاريخها وحضاراتها..
الأسواق العتيقة
عندما تدخل إلى مدينة صيدا تنبهر بما تراه عينيك.. هنا بوابتها البحرية القديمة تُدخلك إلى سوقها العتيق، بعدما تشبع عيناك من بهاء قلعتها الشامخة بهندستها «المفذلكة» على تاريخٍ تسرده حجارتها وأعمدتها وقناطرها التي ألّفت مع البحر قصتها.. وهنا تسمع أصوات باعة السمك تنادي وأطفال يلهون بالمراكب.. وهنا تتزاحم الأصوات مع المحال، مع النساء والرجال والأطفال ومع الزمن، وهنا تخلع نعليك «الملطخين بآهات الحياة»، وتنتعل آخر، بعيد عن أفكارك، لتسير في أروقة ضيقة متراصّة بعضها على بعض بشكل منقطع النظير حيث تتزاوج الحجارة مع أقرانها. كلها تقتحم تفكيرك وأن تتوغل في عمق السوق الذي يعجّ بـ «السائحين»، ذائبين في بحر فن المدينة التشكيلي الذي امتزجت ألوانه على لوحة واقعٍ اسمه صيدا.
رياح الزمن
حين تدخل المدينة، تقع عينيك قصراً على خريطة التراث الذي رسم من سحره خريطة المدينة بأبهى حللها، بريشة خطّت أزقة تطل على السراي القديمة، وأخرى على القلعة البرية، وأخرى على القلعة البحرية، هي حصنٌ شامخٌ لم تهزّه رياح الزمن، وبين القلعة والقلعة، يقع السوق العتيق الذي يحفر التراث خلف جدران الزمن، في تاريخ مسكون في أقبية حجرية، في دكاكين حرفية، في زقاق السوق القديم المتعرج، المتفرّع إلى أكثر من طريق يؤدي كل منه إلى حرفة تارة، وإلى خان الإفرنج تارة أخرى. بين هنا وهناك تبدأ حكايا لا تنتهي.
«الدهاليز» القديمة
في سوق صيدا العتيق، حِرف الخياط والمنجد واللحّام والكندرجي والإسكافي، تطل عليك بمحالها الضيقة في دهاليزها القديمة، «زواريب» وفق تعبيرهم الشعبي، تعبير بسيط ولكن له أبعاده في حضرتهم، «هم أشخاص لم يلتحفوا بوشاح التطوّر، بل حملوا حرفٍ توارثوها أباً عن جد، هم أصيلون في تفكيرهم الذي لا حدود سياسية داخله، بل هم يرسمون نمطية سياسية خاصة لا تعِر عنجهيات السياسة الخارجية بشيء، وهم أيضاً أحفاد التاريخ».
فجأة يعم صيدا صمتاً لا يكسره إلا موسيقى الحرفيين المنبعثة من حنايا سوقه القديم الطراز، موسيقى تبعثك على التأمل في لا حدودية المكان «المحنك»، المتفلت من قبضة «العولمة» المستجدة، «عولمة» لم تجد لها معبر الى داخل السوق الذي يحكي تاريخه على طريقته، ذلك التاريخ الذي تقرأه عبر حرفة لم يفككها الزمن، ولكن ربما الظروف الاقتصادية أبت إلا أن تجعل هذا الإرث الحرفي غائب بعض الشيء.
ها هي الحرف تقاوم حضورها في كينونتها، لتخلو بنفسك في أزقة السوق الضيقه، ومنازله الحجرية ذات الطراز القديم، ولا بد لك أن تلحظ حجم الإلفة بين سكانه، تلك الألفة التي تعود الى حميمية المكانة الذي يتعركش بدراجات هوائية قادمة وأصوات الباعة وازدحام الزوار.
حكاية إرث
تجتاز السوق العتيق ومعه تجتاز أفول زمن بكامله، هنا في حضرته تلمس أصالة البناء من الدكاكين بأبوابها الخشبية القديمة الطراز، تنتشر على الجانبين تسرد حكاية إرث غابر خُطّ بلون آخر، تطفو عليها روحية الترميم الذي لامسها كما السوق ضمن إطار مشروع «الإرث الثقافي والتنمية المدنية» لترميم أسواق صيدا.
الولوج الى صيدا القديمة لا يكتمل إلا إذا عرجت على خان الإفرنج ذات الفن المعماري الإسلامي والطراز التوسكاني، في حضرته تتعرف على جدلية النهضة العمرانية التي عرفتها صيدا في عهد فخر الدين، يتألف الخان من ثلاثة أقسام:
- الأول: الخان الكبير، حيث تقوم معارض التجار والاسطبلات والحمامات، وفي الطابق العلوي غرف نوم التجار والملاحين.
- الثاني: هو البيت القنصلي، ويتم دخوله بواسطة درج حجري من ناحية سوق البازركان يؤدي مباشرة إلى الطابق الأول.. ويتألف البيت القنصلي من غرف متنوعة، وقد كان مخصصاً لممثل الملك الفرنسي. وإلى جانب البيت القنصلي بنيت كنيسة تعرف باسم «تراسنتا» - أي الأرض المقدسة وهي مهملة حالياً..
- الثالث: الخان الصغير، فيقع إلى الجنوب الغربي من الخان الكبير ويتصل مباشرة بالبيت القنصلي، تنظم فيه مهرجانات واحتفالات فنية وثقافية ونشاطات مختلفة ومعارض حرفية.
تترك الخان يرسم تاريخه اليوم على مزاجية الحياة التي تعج بالصخب والحيوية، وتنحدر برحلتك الصيداوية القديمة على متحف الصابون الذي يضمّ في جعبته مئات، بل آلاف التحف الصابونية، لتطل بعدها على «ساحة باب السراي» التي تطل على ساحة «قصر الأمير فخر الدين» التي تحوّلت إلى دفتر مفتوح تقرأ تفاصيله التي خطّت من أنامل الزمن القديم.
تاريخ صيدا
وعلى تخوم السوق وبينما أنت منشغل في البحث عن تاريخ صيدا الذي عايش الآشوريين والبابليين والمصريين والإغريقيين والرومانيين والعثمانيين، تنقشع أمامك «القلعة البرية» «القديس لويس التاسع»، التي تقبع على قمة التل القديم الذي يشرف على المدينة، «هي مقفلة الآن، تستبيحها الحشائش»، يخيم على السوق العُتق، «إن عبر حجرها الرملي أو سقوفها وعقودها وقناطرها»، هندستها يد فنان رسمها بشكل تشكيلي مفعم بحيوية غريبة، ولكن يخاف أن تتداعى حجارته للإنقضاض على الواقع فجأة، دون إنذار ولا مقدمات.
الأسواق بعد الترميم | سوق المنجدين | |
ساحة باب السراي | سوق النجارين |
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق